آداب و ثقافة

متاهة الإسكندرية” لعلاء خالد.. مدينة على أنقاض التعدد

سمانيوز / متابعات

تقتنص رواية “متاهة الإسكندرية” الصادرة حديثاً للكاتب المصري علاء خالد، لحظة مفصلية من التحولات التي شهدتها مدينة الإسكندرية في نهاية السبعينات؛ إذ تدور أحداثها حول جماعة فنية أطلقت على نفسها اسم “جماعة الحمير” وتُعدّ نفسها امتداداً للجماعة الفكرية التي أُسست في الثلاثينات وضمت نخبة من الفنانين والمفكرين المصريين. 
علاء خالد من مواليد 1960، يعدّ واحداً من أبرز شعراء قصيدة النثر في جيل التسعينات، صدر ديوانه الأول “الجسد عالق بمشيئة حبر” عام 1990، وخاض عدداً من تجارب النشر المستقل، إذ صدرت مجموعة من دواوينه في شكل كراسات وطبعات خاصة؛ كذلك أسس مجلة “أمكنة”، وهي إصدار ثقافي سنوي مستقل يصدر من الإسكندرية ولا يعتمد على أي دعم رسمي أو تمويل خاص، بل يقوم بالكامل على مساهمات ومجهودات هيئة تحريره وكتّابه. 

إسكندرية بلا تعدد

اتجه علاء خالد إلى كتابة الرواية في عام 2009، وظلت الإسكندرية الهاجس الأول المسيطر على كتاباته؛ أصدر “وجوه سكندرية” عام 2012، وأخيراً “متاهة الإسكندرية”، غير أن المدينة التي يقدمها خالد لا تستسلم للصورة النمطية للإسكندرية في الأعمال الأدبية. 
في حواره مع “الشرق”، يحكي علاء خالد عن رؤيته للمدينة خلال لحظة التحول الكبرى، لا قبلها ولا بعدها كما يقول: “كتبتُ الإسكندرية التي عشتها، وهي ليست الإسكندرية التي سكنت موجة الروايات التي بدأتها الروايات الشهيرة عن الإسكندرية مثل ثلاثية لورانس داريل أو مسلسلات أسامة أنور عكاشة كمدينة التعددية والتحرر والكوزموبوليتانية، بل كنت أكتب عن غياب هذه التعددية الثقافية والفكرية تحديداً”. 
ويتابع: “في روايتي الأولى، سيطرت عليّ محاولة تأصيل دخول العائلات المهاجرة إلى المدينة، والحي الذي عشت فيه؛ أما في كتابي (وجوه سكندرية) رغم أنه عمل غير روائي، فشعرت بأنني أكتب الجزء الثاني من علاقتي بالمدينة، فكتبت مجموعة من البورتريهات للناس والأماكن التي أراها، كلها تدور حول أشخاص هامشية، لديهم حياة صغيرة لكنها ثرية. كنت منحازاً لأشخاص أنتجتهم المدينة لكنهم لم يمتلكوا الأدوات التي تسمح بأن يكونوا رموزاً لها”. 

 في “متاهة الإسكندرية” أيضاً، يحكي خالد تاريخ مدينته بطريقة مختلفة، ويقول: “سيطرت عليّ المفاهيم المرتبطة بالمدينة، وتحولات هذه المفاهيم، التي جاءت مع المرحلة الناصرية كمرحلة كبرى لتوحيد الأصوات والأفكار، وقد هاجمت الفكرة الناصرية التعدد والكوزموبوليتانية باعتبارها من مخلفات الاستعمار، ثم بعدها كان المرء يستشعر هذا الإرث الثقافي خلال سيره في كل أركان المدينة لكنه لا يجده”. 
ويضيف: “من يقرأ فلن يجد أن الإسكندرية متفرّدة، بل مدينة تملك تاريخاً من الأحداث المشتركة والمتقاطعة مع حالة الوطن العامة وأماكن أخرى فيه، بعيداً عن الحالة الشيفونية التي كانت ترى المدينة كقطعة منفردة بعيدة عن بقية أنحاء الوطن؛ هذه الشيفونية هي ابنة المنتجات الثقافية التي دارت عن الإسكندرية، وليست نتاج تفكير أبناء المدينة أنفسهم”. 

جماعة الحمير 

لا تمضي رواية “متاهة الإسكندرية” في خط زمني واحد، بل تظل حكايات الراوي تقفز من لحظة إلى أخرى في الحقبة نفسها؛ واستند الكاتب في الخلفية إلى مجموعة من الأحداث الحقيقية التي ظلت تبعاتها تتردد في أركان المدينة طول هذا العقد الذي تقع فيه أحداث الرواية. 
ويقول علاء خالد: “اعتمدت على تأريخ الحياة الحقيقية والأحداث الفارقة في تاريخ المدينة، كأحداث كفر الدوار مثلاً، أو الجماعات الفكرية التي تلاشت مثل جماعة الحمير؛ فبعدما نفضت عن المدينة صيغة الكوزموبوليتانية، كان لا بدّ من مركزية جديدة للحدث تجعل المدينة مركزاً للعالم وليس تابعاً أو مدينة في المرتبة الثانية، وهذه المركزية الجديدة أيضاً تفتح المدينة على أماكن أخرى في مصر تتشابه فيها الطبقة المتوسطة في الإسكندرية مع الكثير من المدن المصرية الأخرى”. 

 
نسج علاء خالد روايته حول شاب ينتمي إلى جماعة فكرية تسمي نفسها “جماعة الحمير” تيمناً بالجماعة التي أسسها الفنان المسرحي الراحل زكي طليمات في الثلاثينات وضمت نحو 35 ألف عضو، من بينهم طه حسين ونجيب محفوظ وعباس محمود العقاد والفنان التشكيلي سيف وانلي والفنانة نادية لطفي التي كانت آخر من ترأس الجمعية. 
ويقول: “فكرة الرواية بدأت معي منذ عام 2013، حول جماعة المكفوفين في مقابل جماعة الحمير، وكيف يمكن أن يكشف كل عالم منهم الآخر. كتبت عن عالم المكفوفين قبل ذلك، كنت أشعر بأنني أكتب عن هذا العالم باعتباره عالماً يسكنه أبطال لديهم منطق آخر للتفكير، وأن العاهة ليست سبباً للنقص إنما الاختلاف والوعي المفارق والقدرة على كشف جزء من أزمة اللحظة، فكيفما وحد عبد الناصر المجتمع وأقصى كافة أشكال التعدد، ارتدت هذه الموجة من الإقصاء بموجة أعنف من الإقصاء الديني والفكري الذي تبنته جماعات التكفير والهجرة”. 
في خلفية الجماعة الفكرية التي تسعى نحو الحرية، يتحول أفرادها إلى جلادين وضحايا. ويقول: “رغم اختلاف التعصب لكن الأدوات واحدة، الفارق الوحيد أن جماعة لديها قوة أكثر من جماعة، في هذه المساحة بين الإقصاء والإقصاء المضاد، شيء ما دفعنا جميعاً إلى هذه اللحظة التي نعيش فيها جميعاً أسرى للشعور بأننا كلنا ضحايا، حتى في الأوساط التقدمية!”. 

جغرافيا العمال

يُرجع علاء خالد مفارقة رؤيته للمدينة إلى أننا في مرحلة جديدة يتغير فيها الوعي بالأماكن والأحداث التاريخية. ويقول: “كان من الطبيعي أن تتراجع أيضاً الكتابات والمفاهيم النمطية، وأن تتراجع سيطرة داريل؛ حتى لو أعدنا ترتيب الماضي، سيكون هناك تساؤل جديد مختلف، تكون فيه الإسكندرية ليست مكاناً للانفتاح والنزق والعلاقات المفتوحة، وتكون هناك جغرافيا جديدة للمدينة”. 
في هذه الجغرافيا البديلة، ابتعد المؤلف تماماً عن الثنائية التي طالما لازمت قصص المدينة واحتضنت الصراع التقليدي بين الأثرياء في مواجهة الهامش، ليتحول مركز المدينة من حي المنشية العريق (أحد أقدم أحياء المدينة وأكبر ميادينها) إلى المناطق مثل “الطوبجية” التي يقطنها عمال المصانع الناصرية.
ويقول علاء خالد: “كنت أشعر بأنني أسعى إلى وضع خريطة مختلفة للمدينة، وهذه الخريطة المختلفة هي التي تشعر القارئ بأن هناك مركزية مختلفة وتصوراً ثقافياً مختلفاً، هذا القلق الذي يشعر معه القارئ بأن هناك مكاناً جديداً مشابهاً لأماكن أخرى في الوطن”. 
واستند علاء خالد في رحلة كتابة الرواية إلى جولات المشي في المدينة، الفعل المفضل لدى أبطاله الهائمين بين زوايا المكان في رحلات سير لا تنتهي، ولا تتوقف معها تأملات البطل/الراوي في مسارات تتقاطع كلها حول مجموعة من الأحداث المركزية في تاريخ المدينة، وهي الأحداث التي استمد منها أعمدة لهذه المركزية الجديدة. 
 
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى