أخبار عربيةصدى المهجر

صائب عريقات.. مفاوضٌ خذلته رئته

 

سمانيوز/ فلسطين – متابعات

قبل 3 سنوات، أي أكتوبر 2017، كانت عائلة صائب عريقات، تنتظر بقلق أمام غرفة العمليات في مستشفى إنوفا فيرفاكس، بولاية فيرجينا الأميركية. كان صائب عريقات يخضع لزراعة رئة، بعد تلف في الرئتين.
عمت جلبة غرفة العمليات، تسرب نبأ توقف قلب المريض، وساد الصمت بين المنتظرين أمام الغرفة.
لكن المريض، نجا يومها بأعجوبة أو أنه عاد للحياة بعد أن فارقها كما قال عريقات لاحقا.
تحدث في أكثر من مقابلة عن فترة زمنية كانت 3 دقائق و20 ثانية توقف فيها قلبه، واختبر خلالها الموت، بحسب وصفه، وذلك في أول لقاء له “بعد أن كُتب له عمر جديد”، ظهر عريقات على غير عادته عندما يتحدث في السياسة التي امتهنها في مطلع شبابه؛ للمرة الأولى ظهر مترددا. وصف ما شاهده وما شعر به أثناء توقف قلبه: “رأيت نفسي أمشي بسرعة الريح.. ولكن ليس في السماء بل في فراغ.. فراغ هائل.
قد يكون نفقاً ولكنني لم أر أبعاد هذا النفق. التقيت أشخاصاً قدمت لهم المساعدة في الماضي وأشاروا إليّ قبل أن أعود”.
هكذا وصف عريقات في حينه تجربة الثلاث دقائق وعشرين ثانية “من الموت” كما ذكر.
اليوم، لم يكتب للدكتور صائب عريقات النجاة؛ خذلته الرئة هذه المرة، بعد أن انهارت أمام كورونا، الفيروس الأشد فتكاً في الرئتين، نقطة مرضه السابق وضعفه. توفي الرجل الذي ارتبط اسمه أكثر من أي شخص آخر بالمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وقضى في مستشفى هداسا الإسرائيلي، وهزمه كوفيد-19، العدو الذي لا يعرف التفاوض.

الحياة مفاوضات

“الحياة مفاوضات”، شعار رفعه عريقات، وكرس له الوقت والجهد، بل ووضعه عنوانا لكتاب ألفه، دعا للتحلي بالواقعية، وقال مرارا وتكرارا: “لا طريق إلا المفاوضات”. لكن المطاف انتهى بهذا المفاوض الواقعي معبرا عن إحباطه من التفاوض مع إسرائيل، التي “لا تفهم سوى لغة القوة”، بحسب رأيه. وبلغ به الإحباط حد وصف نفسه، في مقابلات صحافيه، بأنه “المفاوض الأقل حظا في التاريخ”. وقال في إحدى المقابلات: “ليس لدي جيش، ولا قوات بحرية، ولا اقتصاد، ومجتمعي مجزأ”.
لا عجب من إيمان الدكتور صائب عريقات بالمفاوضات والحلول السلمية، فهو لطالما نأى بنفسه عن الخيارات المسلحة، حتى في مطلع شبابه في السبعينيات، عندما كانت “الثورة الفلسطينية” وشعارات الكفاح المسلح في أوجها. منذ البداية، سار عريقات في طريق الأكاديميا، وحصل على شهادتي البكالوريوس والماجستير في العلاقات الدولية من جامعة ولاية سان فرانسيسكو، وأكمل لاحقًا درجة الدكتوراه في جامعة “برادفورد” في المملكة المتحدة، في موضوع حل النزاعات.
عاد عريقات إلى الأراضي الفلسطينية، بعد حصوله على شهادة الدكتوراه، مطلع الثمانينات، وعمل أستاذاً للعلوم السياسية، ورئيساً لدائرة العلاقات العامة، في جامعة النجاح في نابلس، ومحرراً في صحيفة القدس المقدسية. استقر الدكتور صائب في أريحا، التي انتقلت إليها عائلته من القدس، مسقط رأسه.

الانتفاضة

في يوم بارد من أيام ديسمبر عام 1987، كان يقف عمال فلسطينيون من غزة في محطة وقود في أسدود داخل إسرائيل. باغتتهم شاحنة يقودها إسرائيلي ودهستهم؛ توفي 4 منهم وجرح آخرون. في اليوم التالي، تحولت الجنازة إلى احتجاج عفوي، وتحول الاحتجاج إلى مظاهرات غاضبة في عموم الأراضي الفلسطينية، وتحولت المظاهرات إلى انتفاضة، سميت بانتفاضة الحجارة. غيّرت تلك الهبة الشعبية إلى الأبد حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي المباشر. من بين من تغيرت حياتهم، أستاذ العلوم السياسية صائب عريقات.
استغل ذلك الأكاديمي ترؤسه لدائرة العلاقات العامة في جامعة النجاح، وشبكة علاقاته التي بناها، بإصدار نشرة باللغة الانجليزية عن أخبار الجامعة تتضمن معلومات عن الممارسات الإسرائيلية ضد الطلبة وأساتذة الجامعة، من اعتقالات وفرض إقامات جبرية واقتحامات ليلية للحرم الجامعي. في العام ذاته، نفد صبر السلطات الإسرائيلية، وداهمت بيت عريقات. مثل الرجل أمام القضاء العسكري مكبلا ومتهما بالتحريض. الأدلة كانت وثائق النشرات التي صادرتها القوات الإسرائيلية من الجامعة أثناء اقتحامها. أدانته محكمة عسكرية إسرائيلية على خلفية رسالة وجهها إلى إحدى الجهات الأجنبية، وكتب فيها، باللغة الانجليزية “يجب أن يتعلم الفلسطينيون كيفية تحمل ورفض ومقاومة جميع أشكال الاحتلال”، وحكمت عليه بالسجن مع وقف التنفيذ مدة ثمانية شهور، وغرامة مالية قدرها 6250 دولارا.

كوفية مدريد

تسارعت الأحداث حتى أصبحت الانتفاضة رمز للاحتجاج الشعبي ، وحديث العالم. في ذروة تلك الأحداث، سجل عريقات موقفا لفت الأنظار إليه، لكن في العاصمة الإسبانية مدريد. هناك، في عام 1991، توافدت الوفود العربية والوفد الإسرائيلي إلى أول مؤتمر سلام شامل لمنطقة الشرق الأوسط. كان صائب عريقات حاضرا بعد اختياره من قبل منظمة التحرير الفلسطينية، ليكون عضوا في الوفد الأردني- الفلسطيني المشترك، الذي جرى تشكيله بعد رفض إسرائيل الجلوس في مؤتمر يشارك فيه وفد فلسطيني مستقل.
دخل عريقات قاعة المؤتمر مرتديا الكوفية، والتي كانت رائجة للتعبير عن الانتفاضة. أثارت كوفية عريقات لغطا واعتراضاً إسرائيلياً هدد معها بالانسحاب من المؤتمر.
توقفت أعمال المؤتمر الذي كان يسير وفقا للجدول المحدد. طالب الوفد الإسرائيلي بإزالة الكوفية، أو إخراج عريقات من قاعة المؤتمر. تضامنت مختلف الوفود العربية مع عريقات وهددت بالانسحاب من المؤتمر، فمرت لحظات عصيبة على الجميع، قبل أن يتم تجاوز الأزمة.

كبير المفاوضين

كان مدريد نقطة بداية التفاوض المباشر بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، التي كان مقرها تونس حينذاك. أسفرت المفاوضات الطويلة، التي حضر جميع جولاتها الدكتور صائب عريقات، عن اتفاق ما؛ اتفاق أوسلو. لكن هذه الاتفاقية كانت منقوصة، فتبعتها جولات الألف تفاوض وتفاوض: مرة في طابا، وأخرى في كامب ديفيد، وشرم الشيخ، وغيرها، وكان عريقات حاضرا في معظمها، حتى نال لقب كبير المفاوضين الفلسطينيين.
وبعد التوصل إلى اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير وإسرائيل عام 1993، وإقامة السلطة الفلسطينية في العام التالي، عمل عريقات وزيرا للحكم المحلي في أول حكومة للسلطة. وفي العام 1996 انتخب عضوا في المجلس التشريعي الأول، وجرى إعادة انتخابه في الانتخابات الثانية للمجلس عام 2006 عن دائرة أريحا. ثم انتخب عريقات في العام 2009 عضوا في اللجنة المركزية لحركة “فتح”، التي تقود المنظمة والسلطة. ثم أعيد انتخابه لعضوية هذه اللجنة التي تشكل الهيئة القيادية الأولى للحركة في العام 2016.  وأخيرا، اختاره الرئيس محمود عباس في العام 2015 أمينا للسر في منظمة التحرير الفلسطينية، ليكون بذلك –رسمياً- الرجل الثاني في منظمة التحرير، والخليفة المحتمل لرئيس المنظمة، الرئيس محمود عباس.
لكن الأجل لم يمهل عريقات، لتلمس خطواته السياسية قادمة، فداخل المستشفى الإسرائيلي، وفي داخله عدو آخر هو فيروس كورونا، غادر كبير المفاوضين الفلسطينيين، في مدينة القدس، التي ولد فيها قبل 65 عاما. غادر المفاوض المحبط في ظروف استثنائية، من حيث وصول طريق المفاوضات إلى نهاية مسدودة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى