مقالات

مكامن فشل الثورات

كتب : محمد عقابي

شهد العالم عبر تاريخه الماضي والمعاصر تفجر العديد من الثورات الشعبية التي كان نصيب الكثير منها التعثر والفشل، وتعود أسباب فشل هذه الثورات الى غياب مشروع التغيير الواضح المعالم والمستبين الأفق، كما ان من بين الأسباب المباشرة للإخفاق والفشل ندرة وجود الخبراء والمفكرين داخل تلك الحركات التغييرية والتي غالباً ما تصاب بندرة هذا النوع القادر على صياغة الحاضر وصناعة التصورات الكبرى ورسم آفاق المستقبل المنشود، ومعظم الثورات التي شهدها العالم لازمها التعثر والفشل والخذلان وعند التفتيش فيها نجد بانها تخلت عن هذا الصنف من الرجال المفكرين ممن يكثرون في طرح الأسئلة والإستفسارات والقادرين على كشف مكامن الإخلال والعورات لدى قادة هذه الثورات.

وتزداد هذه السمة في الحركات “الأيديولوجية” التي تثق بأفكارها وتقدس قاداتها بشكل لا يقبل النقاش، وبالتالي فهي غير مستعدة لقبول الرأي الآخر ولخوص أي نقاش في جذور الأفكار والمعتقدات التي بنت على ضوئها تصوراتها للواقع الحاضر وللمستقبل ويمتد هذا الغلو الى رفض سبب الوجود الأصلي ومبرره، هذه الروحية الشرسة والمتحفزة ضد الأسئلة المتعلقة بجوهر وجود الحركة عادة ما تجعل منها وسطاً طارداً للمفكرين والخبراء، وتجعلها تكتفي بأصحاب المستوى الثاني من التفكير ممن هم “غير قادرين على التفكير استراتيجياً وتكتيكياً”، بل واحياناً القفز مباشرة إلى ساحة الصراع فتشرع في تنفيذ اجندات ومشاريع ومخططات تخدم أهدافاً واهية وهو ما قد يؤدي إلى نتائج وخيمة وكارثية لاحقاً، بعد ذلك تأتي هيمنة التنفيذيين على القيادة ويظهر هذا جلياً بناءً على ندرة المفكرين والخبراء حيث يتسلم القيادة أناس أقرب للتنفيذ منهم للتفكير النقدي والبعد الإستراتيجي وهم في الغالب لا يشعرون أصلاً بوجود مشكلة تتطلب مراجعة ونقاش وبحث في صميم وجذور الأفكار والروئ والمقترحات ذات الأبعاد والدلالات المستقبلية العميقة، فبالنسبة لهم يعتبر المسار واضح والطريق معروف وما يتبقى لايعدوا كونه يتلخص في كيفية حشد التأييد وجمهرة الناس لهم وتحفيزهم للمسير في الدرب الذي يراه هؤلاء القادة صحيحاً وسليماً، هذا الصنف ينشغل دوماً بالمستوى التكتيكي وردود الأفعال ولا يتفكر مطلقاً في مضامين المستوى الفلسفي إلا قليلاً، ومن ثم فإن حرارة الشعور بالأزمة لا تعمل لدى هذا النوع إلا على المستوى التكتيكي التنفيذي، أما على المستوى الفلسفي والإستراتيجي فقد ماتت فيهم أعصاب الحس والشعور.

أما حركة التغيير اذا كانت منطلقه من أيديولوجيا دينية متطرفة او من أيديولوجيات أخرى كالقومية، فإن معظمها من شأنها ان تشوه النظرة الى الواقع لأنها تشعر معتنقها أنه بالفعل يحمل كل الحلول الجاهزة لمشاكل الواقع، وليس مطلوباً من الناس سوى ان يتبعوه ليطبق هذه الرؤية التي يراها صائبة، فالأيديولوجيا قد تصيب صاحبها بمرض اليقين حيث يتوهم ان كل ما وصل اليه من أفكار وروئ هي الصحيحة والصائبة والسليمة والدقيقه، وان عقله لم يخذله قط وانه ليس بحاجة الى المزيد من النظر في الواقع وبلورة التصورات بشكل أكثر دقة ووضوح فيظن ان الشعارات التي يحملها هي عينها الحلول التفصيلية الناجعة للواقع وانه لوحده من يسير في طريق الحق والصلاح في حين يسير الآخرون بعكس ذلك، ومن نماذج خداع الأيديولوجيا ما حدث في مطلع القرن العشرين من خداع الفكرة النازية للأمة الألمانية حيث خلقت تلك الظاهرة العالمية تصوراً خاصاً عن الجنس الألماني واحقيته بسحق الآخرين وبالتالي فشل هذا المشروع رغم كل تلك القوى والقدرات والإمكانيات.

وفي حالة ان الحركة ضاربة الجذور تاريخياً فلا تجرؤ على مراجعة أقوال المؤسسيين او التخلي عن بعض أطروحاتهم الجوهرية خاصة ان كانت تعتمد في حشدها على تاريخها العريق الذي يعتبر مادتها التسويقية والترويجية الوحيدة حين يخلو واقعها من الإنجازات
وهي تعتبر أي مراجعة فكرية على مستوى الأهداف والفلسفة نيلاً من تضحيات من ضحوا على الطريق وهزاً للجذور والقواعد التاريخية وإقلاق الموتى من القيادات التاريخية للحركة وهو ما تتجنبه الكثير من حركات التغيير التي تدافع عن قتلاها وماضيها ومعتقدها أكثر من دفاعها عن أحيائها ومستقبلهم، اما الخوف من المصير فأغلب الحركات تتأسس بناء على يافطات عامة وتتحرك وفق عناوين براقة مثل مقاومة الظلم او مقاومة الفساد او مقارعة الإحتلال أو غير ذلك دون أن تطرح تصورات حقيقية لما بعد إقصاء الظالم او إسقاط الفاسد او إخراج المحتل، فإذا لمست هذا الخلل على المستوى الفلسفي تبدأ بعد ذلك في التفكير والبحث عن سبب جوهري ربما أعمق للوجود ومن خلال طرح الأسئلة التي تشخص الواقع بشكل علمي وموضوعي مفصل تتكشف وتتضح وتتجلى أمامك أموراً لم تكن في حسبان الفريق المؤسس، إذ قد يكون التغيير بناء على التشخيص الدقيق في حاجة إلى عملية اختراق لمؤسسات الدولة الفاسدة او الى تنظيم مجموعات محلية من أجل بناء مجتمع قوي ومتماسك فتكتشف الحركة أنها لم تتأسس لهذا الغرض وان طبيعة المنتسبين إليها لا تتلائم مع الهدف وبالتالي تحرص على الإستمرار فيما كانت تمارسه وتتجاهل نتائج البحث الفلسفي في الأسئلة المتعلقة بجوهر الوجود وجدواه لأن الإجابة قد تكون غير مرغوب فيها، فقد تقول بعدم جدوى بناء الحركة او استمرارها بنفس الشكل والنهج والمسار وهنا تحار الحركة فيما ستفعله مع أعضائها، وكيف تقنعهم أنهم متمسكون بأداة غير فعالة وهل تواجههم بالحقيقة فيتفلتون غاضبين ويتيهون بين ردة الفعل والإستقطاب.

يبرهن التحدي الذي تواجهه الحركات التي بدأت عفوياً وتكتيكياً قبل أن تؤسس فلسفياً بشكل كبير وواضح او تلك التي تأسست على فلسفة ضعيفة ومشوهة ومضطربة او تلك التي عاصرت لحظات تحول تاريخية فأصبحت فلسفتها غير مناسبة لتفسير الأوضاع الجديدة او في الحركات التي تطاول عليها العمر وأصبحت فلسفتها مليئة بالفجوات، الحقيقة الجلية في ان هذه الحركات التي تصل الى الحكم قبل ان ينضج لديها تصور مشروع التغيير وإمكاناته الشعبية الداعمة ومعرفة اطراف الصراع في ساحة التغيير فتجلب على بلدانها الويلات والنكبات والكوارث وتخلق حالة من الصراع والإضطراب الدائم والمستفحل وتجعل بلدانها عرضه للتدخل الخارجي وللإنقسام والتشتت والتشضي الداخلي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى