الشرق الأوسط بين خطوط الأنابيب وخطوط النفوذ .. سباق ممرات يعيد رسم الخريطة
من طريق التنمية إلى الحزام والطريق والممر الهندي الأوروبي: تنافس اقتصادي تتخلله نيران السياسة ومخاطر الأمن

سمانيوز/تقرير/إعداد: السميفع
يتحوّل الشرق الأوسط تدريجياً من ساحة صراع إلى عقدة استراتيجية للمبادرات الاقتصادية العالمية، حيث تتنافس القوى الإقليمية والدولية على إعادة تعريف الجغرافيا من خلال الموانئ والممرات وسلاسل الإمداد.
منذ عقود، كانت منطقة الشرق الأوسط تُختصر في صراعاتها العسكرية، وكمصدر تقليدي للطاقة، ومسرح لتدخلات القوى الكبرى. غير أن المتغيرات الأخيرة فرضت تحولًا لافتًا في معادلات النفوذ. فالتطورات التقنية، والتحولات الاقتصادية، وتراجع الرغبة الأمريكية في الانخراط العسكري، كلها عوامل دفعت دول المنطقة – ومعها القوى الكبرى – لإعادة تموضعها من خلال مشاريع اقتصادية كبرى تنقل مركز الثقل من ميادين الحرب إلى مفاتيح التجارة.
تركيا بين الجغرافيا والطموح: طريق التنمية والممر الأوسط
برزت تركيا كأحد أبرز الفاعلين في هذا التحول عبر مشروع “طريق التنمية” الذي يمتد من البصرة إلى موانئها، ويمثل محاولة طموحة لتحويل الجغرافيا إلى اقتصاد فعّال. الرئيس رجب طيب أردوغان قدّم المشروع كبديل استراتيجي في ظل تزايد المخاوف من إغلاق مضيق هرمز أو تعطل الممرات البحرية، مشيراً إلى أن الممرات البرية الأكثر أمانًا واستقرارًا ستكون العمود الفقري للتجارة الجديدة.
الاستثمارات التركية الهائلة في البنية التحتية، والتي بلغت 300 مليار دولار خلال عقدين، تهدف لتعزيز هذه الرؤية. إلى جانب “طريق التنمية”، تسعى أنقرة إلى تفعيل “الممر الأوسط” الذي يربط الصين بأوروبا عبر سكك حديدية تمرّ من تركيا، وهو ما يمثل إحياءً عمليًا لطريق الحرير القديم، ويجعل من تركيا نقطة التقاء بين آسيا وأوروبا.
IMEC: رؤية هندية بدعم غربي لمنافسة بكين
في سبتمبر 2023، وبدفع من الهند والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أُطلق مشروع “الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا” (IMEC)، في محاولة واضحة لمواجهة النفوذ الصيني المتزايد من خلال مبادرة الحزام والطريق.
الممر الهندي يختصر مسافة التجارة بين آسيا وأوروبا بنسبة 40%، لكنه يواجه تحديات معقدة تتراوح بين النفوذ الصيني القائم مسبقًا، والتعقيدات الجيوسياسية، خاصة بعد توقف مسار التطبيع بين السعودية وإسرائيل إثر الحرب على غزة، ما أثّر على واحدة من ركائز المشروع السياسية.
كذلك، أثار موقع ميناء حيفا القريب من الحدود اللبنانية مخاوف أمنية، إلى جانب ملاحظات حول الجدوى اللوجستية مقارنة بممر قناة السويس. ورغم وصف الولايات المتحدة للمشروع بأنه “استثمار يغير قواعد اللعبة”، إلا أن الطريق نحو تنفيذه محفوف بالعقبات.
الصين ومبادرة الحزام والطريق: القوة الناعمة بالبنية التحتية
الصين، التي أطلقت مبادرتها العملاقة عام 2013، تسعى من خلالها إلى مدّ نفوذها العالمي عبر شبكات الطرق والموانئ والاتفاقيات. المبادرة تشمل أكثر من 2600 مشروع في أكثر من 100 دولة، وتستهدف ربط بكين بالمناطق الحيوية اقتصاديًا في آسيا وأوروبا وأفريقيا.
إيران، المستفيدة من المبادرة، ترى فيها فرصة لكسر الحصار الاقتصادي وتوسيع الشراكات. وتُعد الصين شريكًا اقتصاديًا حيويًا لطهران، حيث اعتمدت بكين على طرق بديلة لتحويل الأموال واستيراد النفط بعيدًا عن قبضة العقوبات الأمريكية. ورغم محاولات واشنطن لإجهاض هذه الشراكة، فإن بكين أظهرت مرونة عالية في تخطي القيود الدولية.
إيران والمخاوف من العزلة
تراقب طهران ممر IMEC بقلق شديد، خاصة أنه يستبعدها تمامًا، ويمرّ عبر خصومها السياسيين. بخلاف ذلك، ينظر المسؤولون الإيرانيون إلى “طريق التنمية” من منظور أقل عدائية، بل ويُحتمل أن يسعوا للانخراط فيه عبر العراق وتركيا.
لكن تبقى المخاوف الإيرانية قائمة، خصوصًا مع استمرار فقدانها لموقعها كمحور لوجستي تقليدي، وتراجع قدرتها على فرض نفسها في المعادلات التجارية الجديدة، وسط نزيف مستمر للعقوبات وتراجع الاستثمارات الأجنبية.
الممرات البحرية: صراعات تقاطع المصالح
لا يمكن فهم مستقبل هذه المبادرات دون الإشارة إلى الممرات البحرية الحيوية، من مضيق هرمز إلى باب المندب وقناة السويس، وصولاً إلى مضيق البوسفور. فهذه النقاط ليست فقط شرايين للنقل، بل أوردة للصراعات.
فالهجمات الحوثية على السفن في البحر الأحمر تسببت في تراجع إيرادات قناة السويس بنسبة 17%، كما استخدمت إيران تهديد إغلاق مضيق هرمز كورقة ضغط ضد الغرب. ويعزز هذا الواقع من أهمية إيجاد بدائل برية أكثر استقرارًا.
كما تكشف كثافة القواعد العسكرية الأجنبية – مثل 9 قواعد في جيبوتي وحدها – عن حجم التنافس الدولي على ضمان الوصول إلى هذه النقاط، التي باتت تشكل حدود النفوذ الجديد في العالم.
من السلاح إلى الاستثمار: لغة جديدة للنفوذ
التحول الاستراتيجي الذي يشهده الشرق الأوسط يعكس ميلًا متسارعًا نحو توظيف “الاقتصاد كأداة للنفوذ”، حيث لم يعد الحضور الجيوسياسي مرهونًا بالقوة العسكرية فحسب، بل بامتلاك الموانئ، وربط السكك الحديدية، وتدفق البيانات، ووجود شركات ناشئة ومؤشرات ابتكار.
في هذا السباق، لا مكان للجمود. فالدول التي ما تزال أسيرة الخطاب التقليدي، أو عاجزة عن الانخراط في سلاسل التجارة الحديثة، تجد نفسها على هامش التاريخ. أما من يفهم قواعد اللعبة الجديدة، فسيتقدم مهما كان موقعه الجغرافي.