غياب مؤقت كشف المستور.. فمتى تتحرر عدن من خاطفيها؟
أقوال خالد شوبه تكشف أثر النزوح غير المنظّم على المدينة وتفضح تناقضات العودة إلى مناطق الحوثيين في الأعياد

تحليل ورأي: هشام صويلح
بقدر ما حملت كلمات الصحفي الجنوبي خالد شوبه في مقاله “عدن التي أحببتها” بلا نازحين..! نبرة وجدانية عاشقة، بقدر ما انطوت على شهادة واقعية شديدة الدلالة حول حجم التغير الذي شهدته العاصمة عدن خلال عطلة عيد الأضحى، بمجرد غياب فئة من السكان يُطلق عليها زورًا وصف “النازحين”.
خالد شوبه لم يذكر الحوثيين، ولم يلوّح بشعارات سياسية، لكنه كتب بعفوية نزيهة تصف مدينة استعادت هدوءها وأناقتها فجأة، بعدما اختفت منها مظاهر العشوائية والتسول والازدحام، في مشهد يثير سؤالًا كبيرًا:
من الذي غادر المدينة مؤقتًا، فتنفست عدن كأنها عادت سنوات إلى الوراء؟
نازحون.. يعودون في الأعياد!
المفارقة التي لم يتوقف عندها الكثيرون، هي أن أولئك الذين اختفوا من شوارع عدن هم نازحون يمنيون من مناطق سيطرة الحوثيين، يغادرون المدينة كل عيد، ويعودون إليها بعد انتهاء الإجازة، في تناقض صارخ مع صفة “الهروب من الحرب” التي تُمنح لهم دوليًا.
ما كتبه شوبه عن اختفاء المتسولين، وأطفال الشوارع، و”حاملي شوالات الخردة”، ومجانين الأرصفة، وباعة البسطات، لا يمكن فصله عن الواقع الديمغرافي الجديد المفروض على عدن منذ عام 2015 – وما قبل ذلك منذ بداية الاحتلال اليمني للجنوب في عام 94 – حين تحوّلت إلى ملاذ مفتوح استقبل مئات الآلاف من سكان الشمال.
وإذا كان بوسع هؤلاء العودة إلى مناطقهم الخاضعة لسيطرة الحوثيين كل عيد، فكيف يمكن اعتبارهم نازحين بالمعنى القانوني؟
بل الأهم: لماذا لا يُعاد فتح ملفهم رسميًا، وتقييم حضورهم وتأثيرهم على المدينة وسكانها؟
عدن المستباحة: هل يكفي الحنين لتصحيح الخلل؟
شوبه كتب:
“10 أيام كانت كفيلة بأن تعيدني عقوداً أربعة للوراء، وتأخذني إلى ذكريات الزمن الجميل… بلا فوضى ولا أحقاد ولا عبث ولا عابثين.”
وهذه ليست حنينًا ساذجًا، بل تعبير عن الاختلال الذي تعيشه عدن اليوم نتيجة تغيّر تركيبتها السكانية الاقتصادية والاجتماعية، وتحولها إلى ساحة مزدحمة بلا هوية واضحة، بفعل سياسات الاستيعاب غير المنظمة، التي فرضت على الجنوبيين لأسباب سياسية وإنسانية متشابكة.
لقد أصبحت المدينة تعاني من ضغط يومي على خدماتها، وارتفاع في نسب الجريمة والعشوائية، كل ذلك ارتبط زمنيًا بمرحلة ما بعد نزوح مئات الآلاف من اليمنيين، وهو ما لا ينكره حتى العاملون في المجال الإنساني.
الإنسانية سلاحٌ ضد السيادة
لكن المشكلة الأكبر، والتي تعيق أي محاولة جادة لإعادة النظر في هذا الملف، هي الضغوط الدولية التي تُمارسها الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، والتي تشترط بقاء الجنوب صامتًا تجاه هذا النزوح، كي لا يُتهم بالعنصرية أو بمعاداة حقوق الإنسان.
وبذلك، تُستخدم مفاهيم “الإنسانية” كأداة لإخضاع القرار الجنوبي، وتكبيله أمام عملية تغيير ديمغرافي خطرة، تُهدد ثقافة المجتمع وبنيته ومستقبله، بينما تُفتح الأبواب للمساعدات فقط بشرط قبول النزوح كأمر واقع لا يمكن المساس به.
والسؤال هنا ليس: هل نرحّب بالنازحين أم لا؟
بل: هل يُمكن لأي مدينة أن تتحمل هذا الكم من الفوضى الديمغرافية دون انفجار؟
وهل على عدن أن تدفع وحدها ثمن الحرب اليمنية ومشاريع السيطرة الخفية؟
شهادة شوبه.. إنذار ناعم بصوت المدينة
كلمات خالد شوبه، وإن بدت مجرد وصفٍ شاعري، إلا أنها في عمقها نداء تحذير لواقع مختل لا يمكن استمراره، يختصره غياب الازدحام، وسكون المدينة، وتراجع الجرائم، في عشرة أيام فقط… أي بغياب مؤقتٍ لفئة لم تُندمج، ولم تُحاسب، ولم تُرشد.
إن صانع القرار الجنوبي مدعو اليوم، أكثر من أي وقت مضى، لإعادة صياغة العلاقة مع المنظمات، وتحديد سقف واضح لملف النزوح، يحفظ إنسانية الإنسان، دون أن يُصادر حق المدن في الحماية والخصوصية والسيادة.