مقالات

الشعر بين الحاضر والقديم. 

كتب: هايل سعيد ناصر

إن المتأمل والمتذوق للشعر القديم يعلم يقينا مدى تأثير الشعر في نفوس العرب ويجد في ثنايا حديثهم وما وصل من أخبارهم  وقعه عليهم 

وكانَ الشّعْر فى الجاهلية عند العَرب ديوان علمهم ومنتهى حكمهم بِهِ يأخذون واليه يصيرون

مصداقا لقول عمر بن الخطاب كانَ الشّعْر علم قوم لم يكن لَهُم علم أصح مِنهُ فالشعر  ميزان القوم.

وقد قال النبي ﷺ: «إن من البيان لسحرًا وإن من الشعر لحكمًا» وقيل «لحكمة»: فقرن البيان بالسحر فصاحة منه ﷺ، وجعل من الشعر حكمًا؛ لأن السحر يخيل للإنسان ما لم يكن للطافته وحيلة صاحبه وكذلك البيان يتصور فيه الحق بصورة الباطل، والباطل بصورة الحق؛ لرقة معناه، ولطف موقعه، 

وكان للشعراء مكانتهم الخاصه عند الناس عموما وعند ذوي الشأن من زعماء القبائل والعشائر

والملوك خصوصا والشعر هو عمود الرواية : عليه مدارها وبه اعتبارها؛ وقد كانت منزلته من العرب ما هي، إذ كان يتعلق بأنسابهم وأحسابهم وتاريخهم وما يجري مع ذلك، حتى كأنَّه الحياة المعنوية لأولئك القوم المعنويين، فلم يكن عجبًا أن يدور فيهم مع الشمس والريح، وأن تسخر له ألسنتهم فينصرفوا إلى قوله وروايته، حتى بلغ منهم مبلغه. 

ولكي تعرف أهمية حضور الشعر عند القبائل العربية أن أعداءها يتوددون إلى قبيلته مخافة من هجائه، وكان البيت الواحد من الشعر يرفع من شان القبيلة ويحط من منزلتها ، فالهجاء مفعوله أمض من السيف وافتك من النبال، حيث كانت القبائل في ذلك العصر تحارب أعداءها بالشعر قبل السيف وما قصة جرير مع الراعي النميري عنك ببعيد فقد مرّ جرير يوما بالمربد، فوقف عليه الراعي وابنه جندل، فقال له ابنه جندل: إنّه قد طال وقوفك على هذا الكلب الكليبيّ، فإلى متى؟وضرب بغلته، فمضى الراعي وابنه جندل، فقال جرير: والله لأثقلنّ رواحلك! فلما أمسى أخذ في هجائه، فلم يأته ما يريد، فلما كان مع الصبح انفتح له القول فقال:

فغضّ الطّرف إنّك من نمير 

فلا كعبا بلغت ولا كلابا 

ولو جعلت فقاح بني نمير 

 على خبث الحديد إذا لذابا

فَقالَ بعض الرواه والعلماء (كانَ الرّاعِي فَحل مُضر حَتّى ضغمه اللَّيْث) يعني جرير                   

وقال النميري حينها لقومه بعد أن أنشده جرير القصيدة على ملاء من الناس شدو رحيلكم لقد فضحكم جرير ثم إن القصيدة انتشرت في أصقاع الأرض وذاع صيتها وكل ما نزلوا في أرض قوم  وجدو القصيده قد سبقتهم حتى إنهم قالوا والله إن لجرير جن تنشر قصائده

 والحق أن القوم  كانو يتذوقون الشعر ويفهمونه حق الفهم فهي لغتهم  فتجد القصائد على لسان الغلامان والشيوخ والنساء في خدورهن

ورب بيت رفع قوما وهم في هوان من أمرهم وهو ما حصل فعلاً ما مع بني أنف الناقة

 و أنْفُ النّاقَةِ لَقَبُ جَعْفَرِ بْنِ قُرَيْعِ بْنِ عَوْفِ بْنِ كَعْبٍ، وكانُوا يَغْضَبُونَ إذا قِيلَ لَهُمْ بَنُو أنْفِ النّاقَةِ؛ وإنَّما لُقِّبَ بِذَلِكَ لأنَّ قُرَيْعًا نَحَرَ جَزُورًا فَقَسَمَها بَيْنَ نِسائِهِ فَبَعَثَتْ جَعْفَرًا هَذا أُمُّهُ وهِيَ الشَّمُوسُ مِن بَنِي وائِلٍ، ثُمَّ مِن سَعْدِ هُذَيْمٍ، فَأتى أباهُ وقَدْ قَسَمَ الجَزُورَ فَلَمْ يَبْقَ إلاَّرَأْسُها وعُنُقُها، فَقالَ: شَأْنَكَ بِهَذا، فَأدْخَلَ يَدَهُ فِي أنْفِها وجَعَلَ يَجُرُّها فَلُقِّبَ أنْفُ النّاقَةِ، فَكانُوا يَغْضَبُونَ مِن ذَلِكَ، فَلَمّا مَدَحَهُمُ الحُطَيْئَةُ بِقَوْلِهِ:

قَوْمٌ هُمُ الأنْفُ والأذْنابُ غَيْرُهُم

ومَن يُسَوِّي بِأنْفِ النّاقَةِ الذَّنَبا

صارَ اللَّقَبُ مَدْحًا لَهُم

وأنا ما خضت عباب الشعر القديم فهو بحر لجي لا ساحل له،  ولم أكتب إلا لتبيين ما هو ظاهر وباد للعيان فعلاً وليس بسر مخفي وأنا رغم قلة الزاد الذي لدي إلا أنني أحببت أن أكتب ولو اليسير عما تقدم ذكره بعد أن رأيت هذا الكم الهائل من الشعر المعاصر الذي جله هراء  وركاكة الأسلوب فهو مهترى فلا لفظ ولامعنى مجرد كلام فارغ  إلا من رحم ربي والشاعر الذي لا يعلم ولا يتعلم من الشعر القديم ولا يحفظ منه عيون القصائد ولا يتذوقة لا يُسمى شاعراً ألبتة لأن الشعر القديم نقصد به الشعر الجاهلي يعلمك المعاني الكثيرة والمفردات الجزلة واللفظ الفخم والفصيح وتصقل قريحتك وتقوي ملكتك اللغوية وقوة السبك والرص.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى