حين يُجمَّل الخراب بذاكرة خائنة

كتب:
هشام صويلح
لا يتوقف بعض الكتّاب عن اجترار الحنين المضلّل لعهد علي عبدالله صالح، وكأنهم يحاولون إقناعنا أن من أسّس الفساد، وسلّم الدولة للحوثيين، هو “شهيد الجمهورية”. في منشور فيسبوكي نشره مؤخرًا أحمد ماهر، تم تقديم عهد صالح على أنه العصر الذهبي، لأنه – حسب وصفه – كان “الألف السعودي يُصرف بـ56 ألفًا”، والراتب يكفي “راشن منزل وهكبة وتمشية”. لكن هل كان هذا هو مقياس الدولة؟ وهل حقًا كان لدينا دولة، أم مجرد هيكل فاسد ينهار اليوم تحت أقدامنا لأن صالح زرع فيه الخراب بكل وسائله؟
كل المؤشرات التي يذكرها الممجدون لعهد صالح – صرف العملة، الرواتب، الاستقرار النسبي – كانت مجرد مخرجات لاقتصاد ريعي هش، قائم على تقاسم الريع والنفوذ لا على بناء مؤسسات. صالح لم يكن رجل دولة، بل زعيم شبكة، استخدم كل أدوات الحكم لتكريس سلطته، حتى تحوّل اليمن إلى دولة بلا قواعد، وبلا مؤسسات حقيقية. وما ينساه من يُمجّد “زمنه الجميل” أن هذا النظام هو الذي قتل التعليم، وخنق القضاء، وجعل الثروة حكرًا على العائلة والمقربين، بينما ترك الملايين على هامش الحياة.
حين يتساءل البعض من سلّم صنعاء؟ فالجواب واضح لا يحتاج اجتهادًا: علي عبدالله صالح. هو من سلّم المؤسسات، والمعسكرات، والخرائط. هو من أدخل الحوثيين إلى قلب الدولة كأداة انتقام من خصومه. بل تحالف معهم علنًا بعد أن شاركهم سرًا. وهذا ليس اتهامًا، بل حقيقة يعرفها الجميع. فالحرس الجمهوري الذي بناه صالح لم يكن جيش وطن، بل ذراع سلطة. وحين أمر هذه القوات بعدم المواجهة، سقطت الدولة في يد الحوثي بسهولة، لأن من في يدهم السلاح كانوا ينفذون أمر الزعيم.. لا الدستور.
أنا جنوبي، ولا أستطيع أن أقرأ أي تمجيد لـ علي عبدالله صالح دون أن أتذكّر 1994، حين اجتاحت قواته الجنوب ودمرت مؤسساته وألغت هويته. منذ ذلك اليوم، صار الجنوب ساحة استباحة، أُدير عبر أدوات صالح الأمنية والقبلية والاقتصادية، فتم نهب الثروات، وإقصاء الكفاءات، وزرع الانقسامات. ثم، في 2015، لم يتردد صالح في استدعاء الحوثيين لاجتياح الجنوب مرة أخرى. تلك لم تكن مجرد حرب، بل جولة ثانية من اجتياح بدأه صالح بنفسه قبل عقدين، وأكمله بتحالفه مع ميليشيا طائفية، هُزمت فقط بدماء أبناء الجنوب ومقاومتهم الصلبة.
حين يسأل الفيسبوكي أحمد ماهر: “أين قيادة الثورة 2011؟”، فالجواب المؤلم أن هذه “الثورة” لم تكن قطيعة مع النظام، بل تدويرًا له. الإخوان، شركاء صالح في كل شيء، عادوا بعد الثورة إلى مقاعدهم بوجوهٍ جديدة، وباتوا “حراس التغيير” على الورق، وحرّاس مصالحهم في الواقع.
أن يُقال عن صالح إنه “شهيد” لهو منتهى الاستخفاف بوعي الناس. الرجل مات على يد شركائه الحوثيين، بعد أن سلّم لهم البلد، وخان الدولة، واستخدم ولاء الجيش لصالح مشروعه الشخصي. لم يمت في جبهة، ولم يدافع عن شيء، بل دفع الثمن بعد أن أنهى دوره. ومن يترحّم عليه اليوم، إنما يترحّم على عهد السجون، وعلى رائحة الدم في الجنوب، وعلى فساد الأجهزة، وعلى مشروع عائلي دمّر كل شيء.
مشكلتنا اليوم ليست فقط في الأزمات، بل في هذا الحنين الزائف إلى الماضي، الذي يريد البعض أن يقدّمه كبديل للمستقبل. لا، لن نقبل بالعودة إلى زعيمٍ مثلّجٍ في نعش الخراب، لن نغفر لمن خان، ولا لمن غزا الجنوب مرتين، ولا لمن استخدم الحوثي أداة انتقام حتى احترق به.
نحن لا نُعاني من فقرٍ في الوقائع، بل من فائضٍ في التزييف.
زعيمهم المُثلَّج لن يذوب في حرارة الحقيقة، لكن ذاكرتهم الخائنة هي من ستتكسّر أولًا أمام وعي الشعوب.