أنا مريم.. ابنة الانعطافة المصيرية

كتب: د. مريم العفيف
ولدتُ في يومٍ كان وطني يعانق السماء بأمانة،
قبل أن تنعطفَ دروبه المصيرية،
قبل أن يختلّ توازنُ الحلم،
بشهرٍ واحدٍ فقط
في السابع عشر من نيسان/ أبريل 1990،
حين كانت راية الجنوب ترفرفُ مرفوعةً كعهدٍ لا ينكسر،
وكانت الحدودُ واضحة،
والصوتُ عالياً لا يعرف الخنوع،
والكرامةُ تكتملُ سيادةً وأمجاداً.
شهرٌ واحد فقط…
خمسة وثلاثون يوماً،
ثمانمائة وأربعون ساعة،
أربعة وخمسون ألفاً وخمس دقائق،
وثلاثة ملايين ومئتان وثلاثة آلاف وأربعمئة ثانية،
كانت الفاصل الزمنيّ بين مولدي
وبين الانعطافة التي جرحت القلب،
والتحوّل الجارح الذي اقتلع منّا الأمان،
وأدخل الجنوب في لحظة مفصلية لا تزال أصداؤها تتردد في ضمير الأجيال.
أنا التي عشتُ أربع سنوات،
ذاكرتي تتشبّث بتلك الأعوام،
لا أستطيع أن أدفنها،
في تاريخٍ عشته لحظة بلحظة.
أنا التي بدأت أقرأ في صباي،
وكانت أولى صفحاته ممهورة بصوت الوطن،
ما أنا عليه اليوم جاء من عمق تلك الجذور،
التي تضرب في وجه كل من يحاول المساس باستحقاقنا،
في استعادة دولتنا الجنوبية.
أنا مريم،
أنتمي لتلك الدولة التي عرفتُها قبل أن أتمكن من المشي،
واحتضنتها روحي قبل أن أنطق،
وعادلتها روحي كما يعادل الجسدُ الروح.
تشبعنا بالوطنية من أجدادٍ عاصروا كل المراحل،
ومن آباءٍ خاضوا معارك البقاء والكرامة،
ونحن الذين جئنا في اللحظة المفصلية،
نحمل الوعي والإيمان والحق،
ولا نرضى أن نكون هامشاً أو ظلّاً لأحد.
أنا مريم،
ولدت في زمن الجنوب،
وسأحيا على يقينٍ لا يتزعزع،
حتى تعود الدولة التي سبقتني بشهرٍ واحد،
وتبقى في كياني عمرًا لا ينتهي.
ليس ترفًا، ولا موقفًا عابرًا، ما نحن عليه من ولاء وانتماء.
بل هي حقيقتنا..
أنا لا أحيا إلا بجنوبيّتي،
وما كانت مصادفة أن خُتمت شهادة ميلادي باسم:
جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
منذ تلك اللحظة، وحتى السابع من تموز ١٩٩٤م،
خضنا تجربةً مدمّرة حملناها بعنفوان، لكنها كانت تتهيأ لأن تجعلنا في حالة نسيان
كان الاجتياح الأول تعبيراً لتهيئة لغتنا الأولى في المواجهة،
وكانت النكسة محاولة لتوبة وطنٍ جريح،
لكنها لم تكن سوى تهيئة لدمار أشمل.
أتذكّر تلك اللحظات
لم تكن مجرد مشاهد،
بل رائحة بارود،
وطفولة مذهولة،
وأرواح تسير شوارع طويلة فقط لتحصل على الماء،
ولتثبت أنها ما زالت حيّة.
لم يكن السابع من تموز مجرّد فاجعة،
بل جريمة تاريخية مكتملة الأركان،
بحق أرضٍ تستحق الحياة لا الموت،
وتستحق السلام لا الكراهية.
لقد شخنا صغارًا،
لكننا وقفنا، باسم الجنوب،
بقدرتنا العجيبة…
قلبنا المشهد من نكسة إلى بداية نضال.
كنا نكتب التاريخ من جديد،
دون أن نُدرك أننا نرسم خريطة وطن يُبعث من تحت الركام.
إننا لا ننسى، ولن ننسى،
وذاكرتنا ليست ورقة قابلة للمحو.
كل محاولة لطمسنا، تُعيد إلينا المشهد أوضح،
وتجعلنا نؤمن أن الجنوب فينا
كما الروح في الجسد.
وهذه هي عقيدتنا.
حتى آخر رمق،
لن نستطيع إلا أن نكون جنوبيين أحراراً، ثابتين، صامدين، خالدين في أمنيتنا: سيادة كاملة لدولة الجنوب.
وعلى هذا الطريق
نحن قرابين فداء،
من أجل وطنٍ لا نخونه،
ومن أجل مواجهة أعداء لا نُجاملهم.