مقالات

انقطاع الرواتب للشهر الرابع.. حرب مستمرة وفساد حكومي ينهش ما تبقى من كرامة المواطن

كتب: عبدالسلام السييلي

يدخل موظفو الدولة الشهر الرابع على التوالي من دون استلام رواتبهم، في مشهد مأساوي يكشف حجم المعاناة التي يعيشها المواطن العادي وسط حرب مدمرة وانهيار اقتصادي غير مسبوق. لقد باتت الرواتب – التي تعد المصدر الوحيد لمعظم الأسر التي تعتمد على الوظيفة العامة – مجرد حلم بعيد المنال، ما أدى إلى اتساع رقعة الفقر وارتفاع مستويات العجز عن توفير أبسط مقومات الحياة كما انعكس تأثير إنقطاع الرواتب على القطاع الخاص حيث قلت القوة الشرائية بسبب قلة السيولة عند المواطنين.

الحرب التي اشتعلت منذ 11 عام وما زالت مستمرة إلى اليوم لم تدمر فقط البنية التحتية وتضرب مؤسسات الدولة في مقتل، بل عمّقت الفجوة المعيشية وأوصلت ملايين المواطنين إلى خط الفقر وما دونه. ومع غياب أي رؤية اقتصادية واضحة أو بدائل عملية لمعالجة هذه الأوضاع، يجد الموظف البسيط نفسه وحيداً في مواجهة أزمات متلاحقة: غلاء الأسعار، شح المواد الأساسية، وانقطاع الخدمات بالإضافة إلى أضرار نفسية ومشاكل أسرية فاقمت معاناة رب الأسرة بسبب عدم تمكنه من الإيفاء بمتطلبات الأسرة ولو بالحد الأدنى للبقاء بكرامة.
ولا يخفى على أحد توقف المنظمات العاملة بالمجال الاغاثي والانساني إما بسبب قرارات ترامب أو بسبب نقص التمويل من الجهات المانحة.

وزاد من مرارة الواقع أن المواطنين استبشروا خيراً خلال الأيام الماضية بهبوط سعر الصرف إلى 425 ريالا، حيث كان قد وصل سعر صرف الريال السعودي إلى 760 ريالاً مسجلا اعلى سعر له عبر التاريخ ، وهو تحسن طال انتظاره. غير أن هذا الأمل سرعان ما تبدد، إذ لم يلمس المواطن أي أثر لهذا التراجع في حياته اليومية، بسبب عجز الحكومة عن صرف الرواتب للشهر الرابع على التوالي، ما جعل أي تحسن في سعر العملة بلا قيمة حقيقية على أرض الواقع.

والمأساة لا تقف عند حدود الأزمات الاقتصادية، بل تتسع لتشمل المشهد السياسي والعسكري. فالحرب في بلادنا تدخل اليوم عامها الحادي عشر، بعد أن أكلت الحجر والشجر، فما بالك بالبشر! لقد خلّفت هذه الحرب المدمرة ملايين النازحين، وضحايا القصف العشوائي، وأسر تعيش تحت وطأة الجوع والفقر والقتل والدمار. ورغم وضوح جرائم مليشيات الحوثي الإرهابية التي تستهدف المدنيين بلا وازع، إلا أن المجتمع الدولي ما يزال يتقاعس عن تحمل مسؤولياته الأخلاقية والإنسانية تجاه ما يحدث في بلادنا.

وفي الوقت الذي تتفاقم فيه معاناة الداخل، تتكشف ممارسات الفساد في مؤسسات الدولة. فالتقارير المالية تؤكد أن الحكومة تنفق ما يزيد عن 110 مليون دولار شهرياً لتغطية نفقاتها التشغيلية ونفقات أعضاء السلك الدبلوماسي، إضافة إلى ما يُعرف بـ”كشوفات الإعاشة” التي تُصرف لعدد كبير من المسؤولين والمقربين الفارين إلى الخارج، يعيشون في الفنادق والعواصم بعيداً عن معاناة الناس الذين يدّعون تمثيلهم.

هذه الأرقام الفلكية تصرف في وقت تعجز فيه الدولة عن دفع رواتب المعلمين والأطباء والموظفين المدنيين والعسكريين داخل البلاد. إنها مفارقة تكشف بجلاء حجم الانفصام بين حكومة غارقة في امتيازاتها ومكاسبها الخاصة، وشعب يكابد الجوع والحرمان ويبحث عن لقمة عيش شريفة.

النتيجة الحتمية لهذه السياسات هي اتساع رقعة الفقر إلى مستويات قياسية، وتراجع القدرة الشرائية للمواطن إلى أدنى حدودها، ما ينذر بكوارث اجتماعية واقتصادية قد تنعكس على الأمن والسلم المجتمعي وهذا ما يجب التحذير منه. فالموظف الذي لم يستلم راتبه منذ أشهر لم يعد قادراً على شراء الدواء لأطفاله، ولا على تسديد إيجار منزله، بينما الحكومة تصرف ملايين الدولارات شهرياً على بعثات دبلوماسية مترهلة ومنافي ذهبية للهاربين.

لقد باتت قضية الرواتب اليوم اختباراً حقيقياً لشرعية أي حكومة أو سلطة تدّعي تمثيل الناس وهذا ما يدركه جيداً رئيس الوزراء سالم بن بريك. فالشرعية الحقيقية تُستمد من الأرض من خدمة المواطن وصون كرامته وتوفير أبسط حقوقه، وليس من المؤتمرات الدولية أو التصريحات الإعلامية. وأي حكومة تعجز عن دفع رواتب موظفيها لأربعة أشهر متتالية، بينما تستنزف مئات الملايين في الإنفاق العبثي، إنما تُثبت أنها جزء من المشكلة وليست جزءاً من الحل.

إن استمرار هذه السياسات لن يؤدي إلا إلى مزيد من الانهيار، ولن يُجدي معها أي دعم خارجي أو وعود دولية، ما لم يُعاد ترتيب الأولويات ووضع المواطن في صدارة الاهتمام. فالموظف الذي صمد طوال سنوات الحرب وصبر على الضيق يستحق أن تُصان حقوقه، لا أن يُترك فريسة للجوع بينما تتحول موارد البلاد إلى حسابات خاصة وامتيازات لطبقة سياسية منفصلة عن واقعها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى