فيضان غيَّر خريطة الأرض.. كيف تشكل البحر المتوسط في أسابيع؟

سمانيوز/وكالات
تخيل موجة هائلة تجتاح اليابسة، تجرف كل ما يقف في طريقها، وتملأ حوضاً شاسعاً كان جافاً ومالحاً منذ ملايين السنين. قبل أكثر من خمسة ملايين عام، شهد كوكب الأرض حدثاً جيولوجياً فريداً، حين اندفعت مياه المحيط الأطلسي عبر مضيق جبل طارق بسرعة مذهلة، لتغمر حوض البحر الأبيض المتوسط بالكامل في ما يُعرف اليوم باسم فيضان زانكلين الضخم. هذا الفيضان لم يكن مجرد تدفق عادي، بل قوة مدمرة أعادت تشكيل التضاريس والسواحل، وأحدث تغييرات بيئية هائلة لا تزال آثارها واضحة حتى اليوم.
في تلك الحقبة، كان البحر الأبيض المتوسط شبه جاف، إذ أدى انقطاع الاتصال مع المحيط الأطلسي إلى انخفاض حاد في منسوب المياه. أدى ذلك إلى جفاف الحوض تقريبا، وترك خلفه أرضا قاحلة وملوحة عالية، حيث تكونت طبقات ملحية ضخمة تحت القاع بفعل التبخر المستمر. كما كشفت الدراسات الجيولوجية الحديثة عن وجود بحيرات ضحلة منخفضة الملوحة في بعض مناطق الحوض، ما يعكس طبيعة البيئة القاحلة والجافة آنذاك.
ينتمي هذا الفيضان إلى سلسلة من الأحداث الكبرى التي بدأت بأزمة الملوحة الميسينية، والتي وقعت قبل نحو خمسة إلى ستة ملايين عام.
خلال هذه الأزمة، أدى انقطاع البحر عن المحيط الأطلسي إلى تراجع كبير في مستوى المياه، وتحولت المسطحات المائية المتبقية إلى مناطق شديدة الملوحة.
يعتقد العلماء أن تحرك الصفائح التكتونية كان العامل الرئيسي وراء انقطاع الاتصال الطبيعي بين البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، ما مهد الطريق لفيضان كارثي لاحق، وفقاً لـ “dailygalaxy”.
وبحسب الدراسات الجيوفيزيائية الحديثة، فقد أظهرت البيانات المجمعة عام 2009 وجود خندق عميق تحت مضيق جبل طارق، نُحت على الأرجح بفعل اندفاع المياه الهائل الذي غمر البحر.
كما دعمت هذه النظرية أبحاث عالم قاع البحر المالطي آرون ميكاليف وفريقه، الذين ركزوا على المنطقة القريبة من المضيق، حيث يُعتقد أن مياه الفيضان قد انطلقت منه لتملأ الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط بسرعة مذهلة، غير مسبوقة في السجل الجيولوجي.
لم تقتصر الأدلة على مضيق جبل طارق أو حوض البحر وحدهما، بل امتدت إلى جنوب صقلية، حيث اكتشف الباحثون تضاريس غير مألوفة، تلالاً ومنخفضات تكوّنت بفعل تدفقات المياه الهائلة، تختلف عن أي تشكيلات جيولوجية طبيعية أخرى في المنطقة.
كما عثر الفريق على صخور كبيرة متناثرة على قمم التلال، ما يشير إلى أنها جرفت من المناطق المنخفضة بفعل قوة الفيضان العنيفة. وتتطابق أنواع الصخور الموجودة في هذه الرواسب مع تلك الموجودة في المنخفضات أسفل البحر، مؤكدة بذلك تأثير الفيضان على المشهد الطبيعي للمنطقة.
لفهم حجم الفيضان وتأثيره الكامل، طور العلماء نماذج حاسوبية لمحاكاة تدفق المياه عبر العتبة الصخرية قرب صقلية. أظهرت المحاكاة أن عمق مياه الفيضان وصل إلى حوالي 40 مترا، وسرعة التدفق بلغت 115 كيلومترا في الساعة، فيما وصل معدل التدفق إلى 13 مليون متر مكعب في الثانية، أي ما يزيد بكثير عن تدفق نهر الأمازون الحالي.
هذه الأرقام تعكس ضخامة الحدث وسرعة تأثيره على تكوين البحر الجديد، مما يجعله واحدًا من أسرع الفيضانات في التاريخ الجيولوجي للأرض.
عقب هذا الفيضان، امتلأ الحوض بالكامل، وتحول البحر من حوض شبه جاف وملحي إلى بحر واسع، متصاعد، قادر على استقبال الحياة البحرية الحديثة. كما ساهم في تطوير المناخ الإقليمي وتوفير بيئة مستقرة نسبيًا للنظام البيئي البحري.
ومن الملاحظ أن هذا الحدث لم يستمر فقط أسابيع، بل أعاد رسم التضاريس والسواحل بطريقة لم تحدث منذ ملايين السنين، مخلّفاً إرثاً جيولوجياً وبيئياً هائلاً.
ويؤكد العلماء أن فيضان زانكلين الضخم يمثل مثالاً مذهلاً على قوة الطبيعة المدمرة والقدرة الهائلة للمياه على إعادة تشكيل سطح الأرض خلال فترة قصيرة نسبيا على مستوى الزمن الجيولوجي.
ومن خلال الدراسات الحديثة، أصبح بالإمكان إعادة تصور ديناميكيات هذا الفيضان التاريخي وفهم كيفية تأثيره على البيئة القديمة، مما يعطي العلماء رؤية أفضل لتطور البحر الأبيض المتوسط كما نعرفه اليوم.
لم يكن فيضان زانكلين مجرد حدث عابر، بل لحظة فارقة غيرت شكل البحر تماماً، وأظهرت مدى قدرة الطبيعة على إعادة صياغة التضاريس بسرعة مذهلة، تاركة إرثاً جيولوجياً فريداً يمكن رؤيته في تضاريس البحر الأبيض المتوسط حتى اليوم.
