عدن سجن بلا أسوار

كتب: د. اشجان الفضلي
في قلب كل إنسان، توجد رغبة فطرية بالحياة الكريمة، وبالقدرة على الحركة، والإنجاز، ورسم ملامح الغد لأحبائه. لكن ماذا لو أصبحت هذه الرغبة مجرد سراب؟ ماذا لو استيقظت كل صباح لتجد نفسك محاطًا بجدران سجنٍ لم تبنه يداك، ولا تراه عيناك، لكنه يضغط على أنفاسك، ويُثقل خطاك؟ هذا ليس خيالًا، بل هو الواقع المؤلم الذي يعيشه أهل عدن اليوم.
كانت عدن، في يوم من الأيام، حلمًا لمدينة نابضة بالحياة، ميناءً يضج بالنشاط، وعاصمة اقتصادية تُشرق بآمال أبنائها. اليوم، تحولت المدينة إلى ما يشبه “سجنًا كبيرًا”، ليس بجدران خرسانية، بل بقيودٍ من نوع آخر: قيود غير مرئية نُسجت خيوطها من تدهور قاسٍ للخدمات الأساسية، ومن غيابٍ موجع لرواتب طال انتظارها.
لقد أصبحت هذه القيود تشلّ حركة الحياة اليومية، وتُحوّل كل مهمة بسيطة إلى صراع، وكل حلم إلى بعيد المنال. إنها ليست مجرد أرقام وإحصائيات، بل هي قصص آلاف العائلات التي تتجرع مرارة العجز كل يوم، وتئن تحت وطأة واقعٍ يحبس الأمل ويُطفئ شمعة المستقبل.
تخيل يومًا اعتياديًا لسكان عدن؛ يبدأ الصباح على أمل إنجاز بعض المهام، ولكن سرعان ما تصطدم الأحلام بواقع مرير. الكهرباء، شريان الحياة، أصبحت ضيفًا نادرًا، تزور المنازل لساعات معدودة قبل أن تغادر تاركةً الظلام والحرارة لتسود
لا يقتصر الأمر على الكهرباء. شبكة المياه، في كثير من الأحياء، أصبحت مجرد ذكرى بعيدة. بات الحصول على قطرة ماء نظيفة مهمة يومية شاقة، تتطلب البحث عن (بوزة ماء ) التي تبيعه بأسعار لا تتناسب مع جيوب المواطنين المثقلة.
إلى جانب هذا الانهيار الخدمي، يبرز شبح الرواتب المتأخرة أو المنقطعة كضربة قاضية على كاهل المواطن. الموظف الذي ينتظر راتبه لشهور يعيش حالة من القلق المستمر، لا يستطيع التخطيط لمستقبله، ولا حتى لتأمين احتياجات أسرته الأساسية. كيف يمكن لربة منزل أن تدير شؤون بيتها، أو لأسرة أن تسدد فواتيرها المتراكمة، أو لطالب أن يستمر في تعليمه، عندما تكون المصدر الوحيد للدخل معلقًا بين وعودٍ لا تتحقق وواقعٍ لا يرحم؟ هذا الوضع لا يعيق إنجاز المهام اليومية فحسب، بل يقتل الطموح، ويُجبر الكثيرين على التفكير في الهجرة أو البحث عن أبسط السبل للبقاء على قيد الحياة.
لقد تحولت عدن من مدينة الأمل إلى مدينة الصمود المرير. كل مواطن فيها هو بطل يكافح يوميًا لإنجاز أبسط المهام في ظل ظروف أقرب ما تكون إلى السجن. هذا الواقع الصعب لا يحتاج فقط إلى وعود، بل إلى تحرك جاد وفوري لإعادة الحياة إلى شرايين المدينة، وتأمين الخدمات الأساسية، وصرف الرواتب التي هي حق وليست منّة. فبإعادة هذه الحقوق، يمكن لعدن أن تتنفس من جديد، ويستطيع أهلها كسر قيود هذا “السجن الكبير” ليُنجزوا مهامهم ويصنعوا مستقبلهم.