تقارير

« صهاريج الطويلة» إرث الهوية والتاريخ..!

سمانيوز/تقرير/ د. أفراح الحميقاني

في مدينة عدن القديمة “كريتر” كما سماها الإنجليز، وتعني “فوهة البركان”، حيث تشكلت هذه المدينة من انفجار بركان ضخم في فترة زمنية موغلة في القدم، وتشكل سطح مدينة عدن القديمة وكأنه ذات شكل مقعر.

وعندما سكن الإنسان القديم هذه المدينة، أيقن هذه المشكلة التي يمكن أن تؤدي لغرق المدينة نتيجة هطول الأمطار الموسمية وامتلاء المدينة بفيضان، نتيجة هطول مياه الأمطار، فكان لابد من حل هذه المشكلة، فبنى الإنسان القديم خزانات ماء كبيرة جداً عُرفت بـ”الصهاريج” في الجبال، وخاصة في منطقة الطويلة، للحفاظ على مياه الأمطار والاستفادة منها في الشرب، وعمل أيضاً على بناء ووضع سائلات وقنوات لتصريف مياه الأمطار عند امتلاء الصهاريج، لتسلك طريقها للبحر حفاظا على سلامة المدينة من الغرق في فيضانات مياه الأمطار.
فكانت الصهاريج وكأنها نصب تاريخي محفور في الجبال، فهي أشبه بتحفة فنية وهندسية معمارية تدل على عبقرية الإنسان القديم الذي سكن هذه المدينة العتيقة. وتكمن عظمتها في أنها مازالت تمارس وظيفتها في خزن مياه الأمطار والاحتفاظ بها، بعكس المعالم الأثرية الأخرى التي فقدت وظيفتها، ليس فقط على المستوى المحلي بل والعالمي أيضاً.

موقع الصهاريج ووظيفتها:

توجد صهاريج الطويلة في أسفل مصبات هضبة عدن المرتفعة حوالي (800) قدم، وتأخذ الهضبة شكلاً شبه دائري، ويقع المصب عند رأس وادي الطويلة. وتتصل الصهاريج ببعضها البعض على شكل سلسلة، وهي مشيدة في مضيق يبلغ طوله (750) قدماً تقريباً، ويحيط بها جبل شمسان بشكل دائري، باستثناء منفذ يتصل بالمدينة.

تعمل الصهاريج الصغيرة في بداية الوادي كسدود لتصفية المياه من الرمل والطمي (أشبه بعملية فلترة للماء وتنقيته من الشوائب). وكانت هناك فتحات وممرات في الصهاريج، حيث كانت تتم عملية توزيع المياه فيها عن طريق امتلاء الصهريج في أعلى الوادي بمياه السيول المندفعة من قمة الهضبة، وينساب الماء الفائض عبر قناة وممرات إلى الصهريج الثاني ليمتلئ بدوره ثم ينساب الماء إلى الصهريج الذي يليه، وهكذا إلى آخر ممر للبحر.

وأهم وظيفة للصهاريج هي خزن وحفظ الماء وتصريف ما فاض منه إلى البحر، كما تقوم بتغذية الآبار الجوفية للمدينة، من خلال فتحات خاصة صممت في قاع كل صهريج لذلك الغرض. وقد وصفها الرحالة أمين الريحاني بأنها “من أجمل الأعمال الهندسية في العالم”.

تاريخ بناء صهاريج الطويلة:

يوجد بالقرب من صهريج كوجلان في الطويلة نصب تذكاري كُتب عليه «هذه الخزانات في وادي الطويلة مجهول تاريخها، حيث لا يعرف تاريخ بنائها بالتحديد، ولكن يحتمل أن بناءها كان في القرن الخامس عشر قبل الميلاد». كما وجد أيضاً نقش حميري محفوظ الآن في متحف اللوفر في فرنسا يشير إلى أن «قيلزد قد قدمت مسنداً لآلهة ذات بعدان تكفيراً عن خطيئة ابنتها لتدنيسها صهريج عدن». وهذ يبين أن مياه الصهاريج كانت مقدسة لدى السكان في مدينة عدن القديمة، حيث كان لا يسمح بالسباحة فيها، وربما أيضاً كانت تقام فيها الشعائر الدينية، وكانت تقدم النذور للآلهة التي عُبِدت في ذلك التاريخ القديم الذي يرجع إلى ما قبل الميلاد.

صهاريج معلقة:

يرى المؤرخ عبدالله محيرز في كتابه «الصهاريج»، أن صهاريج الطويلة ما هي إلا “مصارف وليست خزانات، وأنها بُنيت على ارتفاع معين في الوادي (وادي الطويلة) وليست في قاع الوادي كما يبدو لمن رآها اليوم. فهي في الواقع أشبه بما يسمى بالصهاريج المعلقة، ترتفع عن مستوى قاع الوادي وتنساب موازية لانحداره. ويقصد بقاع الوادي أرضيته البكر، نفس عمق صهريج كوجلان، ويظهر أنه قد تحطم بعضها في القرون الخمسة الأخيرة، فنزلت الشلالات مباشرة إلى الوادي متجاوزة هذه المصارف وامتلأت بالطمي والحجارة وارتفع سطحه حتى دفنت نهائياً”، وأعطت انطباعاً خاطئاً لمن يراها وكأنها محفورة في قاع الوادي.

كما أشار المؤرخ محيرز إلى نقطة هامة، ألا وهي أن عمليات الترميم لصهاريج الطويلة التي قام بها الإنجليز أثناء احتلالهم لمدينة عدن، أسفرت عن تعديل المهندسين الإنجليز في المخطط الأصلي لشبكة المصارف، وذلك بغرض خزن أكبر كمية ممكنة من المياه، مما عطل عملها فتحولت من مصارف إلى خزانات ماء.

أهمية صهاريج الطويلة:

تكمن أهمية صهاريج الطويلة في أنها قد قاومت – منذ بنائها في عصور ما قبل الميلاد حتى الآن – عوامل التعرية الطبيعية، ويعود السبب في ذلك إلى صلابة صخورها البركانية، وإلى المادة المستخدمة في البناء وهي مادة الرماد البركاني المختلط بمادة النورة مع الهلسن والنيس، تشكلت تحت حرارة وضغط عاليين، كما أنها أيضاً كانت بمثابة خط الدفاع الأول لحماية مدينة كريتر من أي فيضانات ناتجة من تدفق مياه السيول.

وعند احتلال الإنجليز لمدينة عدن في عام 1839م، وبسبب حاجة الجيش البريطاني في عدن للمياه والتي كانت تجلب لهم من الحسوة، وكانت تواجه مقاومة في طرق قوافل الماء بين الحين والآخر من القبائل، حينها فكر الإنجليز في الاستفادة من هذه الصهاريج وترميمها لتكون مصدراً يمول احتياجاتهم واحتياجات المدينة من الماء. لذلك، أوكل المقيم السياسي البريطاني (كوجلان) بمهمة ترميم الصهاريج لمساعدة (بليفر).

وامتدت فترة ترميم الصهاريج من عام 1845م حتى فبراير 1899م، وتم خلالها ترميم (18) صهريجاً. وبسبب التخطيط العمراني للمدينة، سواء في عهد الإدارة البريطانية لعدن أو بعدها، وبفعل العشوائيات، تم القضاء على كافة السائلات في المدينة، وطغى العمران على كل وادٍ وجبل وسفح، وطمس كل آثار المدينة. وباختفاء السائلات التي شقت لنفسها طريقاً إلى البحر يكمن الخطر الذي يهدد المدينة عند هطول الامطار.

إن وضع صهاريج الطويلة بالأمس أفضل بكثير مما هي عليه الآن، حيث كانت الدولة تهتم بهذا الصرح الحضاري والسياحي، ولكن الآن وللأسف الشديد أهملت الدولة هذا الصرح الأثري الذي طاله التخريب المتعمد والبناء العشوائي فيه، وأصبح وضع صهاريج الطويلة في منتهى الخطورة، ويهدد بانتهاء معلم أثري في غاية الأهمية الحضارية والمعمارية يدل على تاريخ مدينة عدن القديمة الموغل في التاريخ، وعظمة من سكن هذه المدينة وترك فيها هذا الأثر العظيم، ليكون شاهداً على الحضارة والمدنية الموجودة في هذه المدينة القديمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى