آداب و ثقافة

البنية السردية في قصيدة ( في موكب الثورة ) للشاعر الكبير لطفي جعفر امان

[su_label type=”info”]سما نيوز/د. شهاب القاضي/خاص[/su_label] توطئة:
 
هنالك بعض الشيء من التواطؤ، ما بين الحدث الكبير.. الاستقلال الوطني لجنوب اليمن في 30 نوفمبر 1967وبين ذاكرتي الفتية، عندما كنت في العاشرة من عمري آنذاك، ثمة توسط او قل مساحة مشتركة بين الحدث والذاكرة التي يتقادم عهدها.
عام 1967 كان عاما” لا ينسى لفتى في العاشرة من عمره: هزيمة 5 يونيو 1967م، استقالة الزعيم جمال عبد الناصر، والحروب الاهلية التي كانت تندلع بين الجبهة القومية وجبهة التحرير في مدن الجنوب وكانت أشدها فتكا في مدينتي – المنصورة في محافظة عدن.
وبالرغم من كل الاحداث المأساوية التي شهدتها مدينة عدن ،الا انني ما زلت اتذكر مشاعر الفرحة الفياضة التي انتابت المواطنين بخروج جنود بريطانيا العظمى من عدن ، ومازالت ترن في اذني كلمات الرئيس الشهيد قحطان الشعبي في أول خطاب له في مدينة الاتحاد التي سميت فيما بعد بمدينة الشعب وهو يعرف عن نفسه : انا قحطان محمد الشعبي رئيس جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية ، وكنت بين الحشد حينذاك ،وما زلت اتذكر مدينة عدن في جميع احيائها وبالذات كريتر ، كيف كانت انوار الفرحة والزينة مضاءة في كل البيوت والمحلات التجارية ،بشكل مدهش وعجيب ، في السوق الطويل والزعفران وغيرها من الاحياء ..كانت الفرحة لا توصف ، برغم كل الاخطاء السياسية القاتلة التي جعلت من الجبهة القومية التنظيم السياسي الوحيد الذي يستأثر بالحكم وينبذ غيره من القوى الوطنية الاخرى.
وكنت عندما تحل مناسبة استقلال الجنوب في نوفمبر1967 م، في الاعوام التالية، اترنم بالأغنية التي تشدني اليها كثيرا وهي قصيدة (في موكب الثورة) للشاعر الكبير: لطفي جعفر امان وغناء الفنان الكبير احمد بن احمد قاسم، التي كانت تذاع من راديو وتلفزيون عدن، اثناء المناسبة بصورة مستمرة فتنتعش الذاكرة المتهالكة وتجري فيها الدماء فأعود الى العاشرة من العمر أتفيا ظلال ومشاعر الذكريات ولا ارى في استقلال الشعب الا حريته المتحققة والتي لن يتنازل عنها ابدا” او كما قال عنها الشاعر لطفي جعفر امان:
الشعب لن يستعبدا
قد نال حريته بالدم والنيران.
 
في موكب الثورة: الاستقلال الوطني موضوعا ” :
 
 
وحده الاديب الحقيقي فقط الذي بمقدوره استلهام التاريخ وتمثله مع الشروع في كتابة نص ادبي يحترم شروطه، وهناك من التجارب الابداعية العديدة في الادب اليمني والعربي والانساني بشكل عام.. وهي التي خاضت في حقل التاريخ لا لكي تخرج لنا اعمالا” هي الى المرايا أقرب او تقوم بإعادة تلاوة الحدث واستخراج العبر والدروس والاحكام الجاهزة ولكنها قدمت لنا اعمالا كاملة من حيث البنية الدلالية والجمالية، في معمارية تقول الفن والتاريخ معا”.
 
قصيدة في موكب الثورة هي بين تلك الاعمال الابداعية الحقيقية التي كان موضوعها حدث الاستقلال الوطني للجنوب ، ولكن للقدرة الابداعية الهائلة للشاعر الكبير لطفي جعفر امان ، اصبح معنى الاستقلال الوطني فيها كحدث تاريخي سياسي مجيد ، له بناء فني وتحديدات ابداعية خلاقة مبهرة ، إذ استطاع شاعرنا الكبير تقديم الاستقلال الوطني كحدث متموضع لشعب الجنوب تم انجازه في 30 نوفمبر 1967م وجعله مفهوما يؤطر لمعاني الحرية والعدالة والكرامة في نسيج الشخصية الجنوبية بحيث لا يمكن ان نتحدث عن الحرية الا ان نتحدث عن الانسان في الجنوب متعينة في حياته الخاصة و المجتمعية .
فكيف تتمظهر القصيدة من الناحية الدلالية والجمالية وهي في سياق وجودها تمثلا للحدث التاريخي (الاستقلال الوطني) ، وبأي كيفية يتحقق الفن الشعري في قصيدة (في موكب الثورة) ، كيف يتمكن الابداع الذي هو في صيرورة لاتتوقف من ان يتمثل ويستلهم الحدث التاريخي الذي يقبع في الماضي بلا حراك في سكونيه جامدة تتلفع بالذكرى وبمحمولها القيمي الذي يكتسب تأثيره والحاجة اليه بما تفرضه ديناميات الحاضر والمستقبل من احداث وأفكار ورؤى تفرضها التحولات الموضوعية والذاتية للمجتمع ؟.
 
في موكب الثورة، الحرية اولا”:
 
لنحاول ان نقترب من العالم الذي تمنحه لنا قصيدة في موكب الثورة ، ونقرأ دلالتها الفكرية والجمالية ، كيف استطاع الشاعر الكبير لطفي جعفر امان ..ان يتمثل ويستلهم الحدث التاريخي باحتلال الاستعمار مدينة عدن اولا” في 19 يناير 1839ثم الجنوب لاحقا .وكيف استطاع الاستعمار ان يحول كل ذلك الى قاعدة عسكرية هي الاكبر في الشرق الاوسط آنذاك، وليس ادل على ذلك ما قاله الاديب الفرنسي فلوبير في منتصف القرن التاسع عشر ( لا يبدو لي مستحيلا تقريبا ، انكلترا خلال وقت قصير ستصبح سيدة مصر .فهي الان تملأ عدن بجنودها دون انقطاع ، وعبور قناة السويس سيجعل من السهل على اصحاب الستر الحمراء ان يصلوا القاهرة ذات صباح جميل ) (1)
لم تكن امكانيات بريطانيا الاستعمارية محدودة في الفترة من القرن الثامن عشر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية 1945.. كانت هي الامبراطورية التي لاتغيب عنها الشمس، لذا حرص شاعرنا الكبير على ان يستهل قصيدته بمقدمة او تمهيد، والمقدمة عبارة عن مقطعين، من سبعة مقاطع تتكون منها القصيدة، وهي مقدمة تأملية يمتزج فيها الحزن بالفرح، والوهم بالحقيقة، الضعف بالقوة، الماضي بالحاضر ، الحاضر بالمستقبل.
في البدء، يعود الشاعر الى الماضي السحيق قبل ان تطأ اقدام جنود الاستعمار ارضنا، يقول الشاعر:
 
يامزهري الحزين من يرعش الحنين /الى ملاعب الصبا.. وحبنا الدفين /هناك.. حيث رفرفت / على جناح لهونا/ اعذب ساعات السنين.
يستمر الشاعر في قول حزنه، والتعبير عن ألمه، فيما يعود هو الى الماضي قبل ان تصبح بلاده مستعمرة، وأرضه محتلة، يعود الى نفس اللازمة التي تحكم هذه المقدمة الشعرية، يقول الشاعر:
يامزهري الحزين الذكريات.. الذكريات / تعيدني في مركب الاحلام للحياة / لنشوة الضياء في مواسم الزهور /يستل من شفاهها الرحيق والعطور.
 
وعلى هذا السياق، ينتقل الشاعر فجأة دون تمهيد من الماضي قبل الاستعمار الى حاضر ثوري جديد، وكأنه اي الشاعر في هذه الانتقالة المفاجئة، لا يعترف بالحقبة الاستعمارية او لا يريد ان يتذكرها لانها لم تفعل اي تأثير انهزامي في الانسان وإن احتلت الارض كما سنرى لاحقا”في مقاطع القصيدة الاخرى.. يقول الشاعر:
وبعد هذا كله / في صحوة الحقيقة / ينتفض الواقع في دقيقة / يهزني / يشد اوتادي الى آباري العميقة / يشدها.. يجذب منها ثورتي العريقة / ويخلق الانسان مني وثبة وقدرة / عواصفا وثورة
نحن الان في زمن الحاضر الثوري، زمن الثورة، اثناء الكفاح المسلح، وبعده في مرحلة الاستقلال الوطني، والشاعر يؤكد ذلك في اسم الاشارة (هنا.. هنا) التي تشير الى معنى المكان في الراهن والحاضر واللحظة:
هنا …هنا / إذ زمجرت رياحنا الحمراء / تقتلع القصور من منابت الثراء/ وتزرع الضياء / وتغدق الغذاء.. والكساء.. والدواء / على الذين امنوا بانهم احياء/ وخيرة الاحياء / في الحقل / في المصنع / في كل بناء.
 
نعود من جديد مع الشاعر الى الماضي، ولكن هذه المرة الى الحقبة الاستعمارية، الفترة التي رزح شعبنا تحت سيطرة الاستعمار البريطاني، وقد اعتبرها الشاعر سنوات الضعف حيث يقول في لازمته للمرة الثالثة ولكن بشكل مختلف:
يامزهري الحزين / يامزهري الضعيف.
 
والضعف هنا عند الشاعر لطفي امان، هو الاحساس بالغربة والوهم وغياب الوعي بمشكلات الحاضر والعمل على التحرر من الاستعمار. فإذا كنا قبل مجيء الاستعمار نصف انفسنا باننا من الشعوب العربية المتخلفة التي كانت مأخوذة بالماضي الزاهر للعرب وبتراثنا القديم، او كما يقول الشاعر (عن قيس وليلى)، هذه الغربة التي كان الماضي يشدنا اليها. استبدلناها بغربة اخرى عندما احتلت ارضنا، وذلك بالنزوع الى الثقافة الاجنبية والانبهار بها كما سماها شاعرنا(روميو وجوليت ) وانتقلنا من غربة الى غربة وكأننا امة الوهم الحقيرة ، يقول الشاعر :
ماعاد شعبي ينسج الاوهام في لحن سخيف / عن “قيس ليلى “.. ” روميو وجولييت “/ اسماء كثيرة/ دبت.. دبيب النمل في اسفارنا المثيرة / دبت بنا بحمولة الافيون في سفن خطيرة / كي توهم الدنيا بانا امة الوهم الحقيرة.
هكذا انتقلنا مع الشاعر من الماضي في اللازمة الاولى قبل مجيء الاستعمار ، الى اللازمة الثانية زمن الحاضر الثوري والاستقلال الناجز، ثم عدنا مرة اخرى الى الماضي اثتاء الحقبة الاستعمارية في اللازمة الثالثة ،وانتقلنا مع الشاعر الى الحاضر الجديد في اللازمة الرابعة ، ويمكن تمثيل ذلك على النحو التالي : ماضي – حاضر – ماضي – حاضر ، هذا التواتر الزمني ، هذه الحركة كما اسمتها سيزا قاسم بين الماضي والحاضر تظهر اكثر في افتتاحية الروايات Expositian وهذا التذبذب او الحركة في عناصر الزمن يسميه ميشيل بوتور بتتابع الوحدات الزمنية في صيغة تخضع لايقاع خاص ( Contre point tempoel)(3) وبحسب اعتدال عثمان المقصود بالإيقاع الهرموني0 بين فترات متزامنة ويتخذ دخول الاصوات الى القصيدة نظاما معينا كما يحدث في انواع معروفة من التأليف السيمفوني وخصوصا مايسمى بال ” Fuge Form” الذي يعتمد اساسا على التمازج اللحني فيدخل الصوت الاول ويكون بمثابة لحن القرار Subject ثم يليه صوت آخر يؤدي لحن الجواب Answer محاكيا ” اللحن الاول ولكن بدرجة صوت مختلفة ، تكون اقل انخفاضا في السلم الموسيقي (4) بتكرار اللازمة اكثر من مرة وعلى نحو مختلف كل مرة ، واللازمة اصطلاحا هي عبارة عن بيت او مقطع شعري ، تتكرر في القصيدة ، وهي موجودة في الادب الانساني بشكل عام منذ بدايات التاريخ ، حيث كانت سمة عامة للشعر البدائي وفي الحضارات القديمة ، إذ نجد امثلة على ذلك في كتاب الموتى لدى قدماء المصريين وفي مزامير داؤد العبرية وفي القصائد الرعائية اليونانية القديمة ، وفي اناشيد العرس اللاتينية وفي اغلب الصيغ الشعرية المتوارثة عن جماعة التربادور .. واللازمة من العناصر التي تميز الشعر الغنائي عامة حتى في عصوره المتأخرة. ولايشترط في اللازمة ان تكون دائما عبارة مكررة بنصها فقد تعتريها تغيرات طفيفة في كل دور حتى لا تثير الملل، وهي تقوم بلم القصيدة من خلال تكرار منظم وان كان غير صارم، كما انها تستدعي الطقوسية، حيث تتكرر عبارات معينة كما في الصلوات والشعائر. (5) وقد تضمنت القصيدة في المقدمة أربع لوازم تم تكرارها وهن كالتالي:
1) يامزهري الحزين
من يرعش الحنين
 
2) يامزهري الحزين
الذكريات.. الذكريات
 
3) يامزهري الحزين
يامزهري الضعيف
 
4) يامزهري المحزون يا ضعيف
 
واذا رأينا الى الكلمات والاحرف بأنها تشكل وحدات صوتية (مورفيم)* فكل لازمة نجد انها تتكون من:
-اللازمة الاولى تتكون من ( 6) وحدات صوتية
-اللازمة الثانية تتكون من (5) وحدات صوتية
-اللازمة الثالثة تتكون من (6) وحدات صوتية
-اللازمة الرابعة تتكون من (5) وحدات صوتية
وإذا منحنا ذلك شكلا ما لن يكون الا هارمونيا في تناغم بلاغي جميل من اليسار الى اليمين، على النحو التالي:
 
6~5~6~5
وطبقا لتحليل البنى الصوتية فالمقاطع المحددة يمكن ان تدخل ضمن العلاقات الرأسية، اما العلاقات التي تتولد ما بين المقاطع والوحدات الصوتية في الكلام المتصل فأنها تدخل ضمن العلاقات الافقية (6) وهذا ما نجد تحققه في النص حيث تساوقت الوحدات الصوتية صعودا وهبوطا، شهيقا وزفيرا، ماضيا وحاضرا، مع مقاطع المقدمة الشعرية، وكأن الشاعر يلجأ الى تكرار ليس هو بالتكرار، اننا في كل لحظة أمام حالة جديدة وبحسب محمد بنيس فإن هذه الوحدات ليست زائدة، انها تلعب دورا دلاليا في النص (7).
 
كانت بلادي هذه.. ملكي انا:
 
ينتقل شاعرنا الكبير بعد المقدمة الشعرية التأملية الى المقطع الثالث، الذي يتحول فيه الشاعر الى راو على افتراض انه امام قارئ او مستمع معين، اي انه في مستهل المقطع بادر إلى إقامة المسافة المطلوبة بينه كشاعر وبين القارئ او المستمع الذي يتمظهر لنا في بعده الزمني حاضرا حضور الابدية في صيرورتها التي لا تنتهي يقول الشاعر:
اسمع إذا مني / ووقع لحن قصتي الجديد/ وابعث به في مركب الشمس العتيدة للخلود / اسمع.. / انا من قبل قرن او يزيد / قرن وربع القرن بل أكثر من عمري المديد / كانت بلادي هذه ملكي انا.. / ملكي انا/ خيراتها0 مني.. ومن خيراتها احيا انا / كانت.. ومازالت.. / وهذه قصتي فانصت لنا:
يحاول الشاعر في هذا المقطع ان يسرد حكاية الاستعمار البريطاني للجنوب، فينتقل من ضمير المتكلم المفرد، الى ضمير المتكلم الجمع في سعيه، لتكوين بنية متآزرة بين الصوت الفردي (اسمع إذا مني) والصوت الجماعي (فانصت لنا) وكأن صوت الشاعر هو هو نفسه صوت الشعب امام كائن يتقدم الينا في جنح الظلام وهو الاستعمار.
يمكن لنا فهم هذا التحويل داخل العلاقة بين الشاعر/ الشعب، داخل بنية الضمير وهو ضمير المتكلم المفرد والجمع وهي من ضمائر الحضور وبحسب محمد بنيس فإن المتن المعاصر ملتزم بالحضور ومقدم على غيره وهذه خاصيته الاساسية، هذه البنية المؤطرة بالحضور تعطي اهمية خاصة للمفرد في نطاقه، يأخذ المتكلم الحصة الكبرى ، يقول الشاعر : كانت بلادي هذه ملكي انا / خيراتها مني ، ومن خيراتها احيا انا .
 
هذا التواصل النسغي مع الارض، مع المكان هو الذي سوف يجعل من الاستعمار حدثا لا يطاق. لا يمكن قبوله، ولهذا فإن الاستعمار حتى وإن استولى على الارض، مع ذلك ، الشاعر يرفض هذا التملك معلنا”( انها كانت بلادي ومازالت ) بنوع من الإصرار الذي تمنحه بنية الاستباق في النص Proleps وذلك لأن الشاعر ( الراوي) زمنه وهو يحكي زمن مابعد الاستعمار ، زمن الاستقلال اي في الزمن الحاضر ، لهذا تراه مضطرا عند الاستطراد والاستمرارية لأن يؤكد بنية الاسترجاع Analpse والعودة الى زمن الماضي في قول حكايته :
في ليلة مسعورة.. موتورة الظلماء / اوفت الى شواطئي مراكب الاعداء / يقودها القبطان هنس انجليزي حقير/ يقرصن البحر شهى / وجيفة من الضمير /هذا الحقير / ارسى هنا ..
(ارسى هنا..) نحن الان قبل الاستعمار، وهنا هي صيرة، مدينة عدن القديمة، والشاعر يوحي الينا بالتفكير في تيمة فلاديمير بروب : التوازن – انعدام التوازن – عودة التوازن. يقول الشاعر وقد دخلت عدن والجنوب مرحلة انعدام التوازن:
وهكذا انداح له الغزو الى اقصى الحدود / ودنس البلاد بالجنود.. والنقود/ وبذر القلاقل / وفرق القبائل /ولملم الدجى على اطرافه.. يصول / يمد من اطماعه مخالب المغول.
 
روح الشعب.. قوة الإنتصار:
 
كان المقطع الرابع مؤثرا، بين بنيتين او قل بين زمنين، بين حاضر الشاعر والماضي الاستعماري، بين بنية الاستباق وبنية الاسترجاع.. وقد استطاع الشاعر ان يؤكد ان الاستعمار ليس غير استعمار الارض فقط.. أما الانسان فإنه يظل عصيا على السيطرة، انه المنتصر دوما حتى وإن كانت ارضه محتلة؛ فالاحتلال الحقيقي هو انهزام روح الشعب من الداخل، وهذا مالم يحدث ولن يحدث ابدا”، يقول الشاعر لطفي امان خلال المقطعين الخامس والسادس:
لكننا على المدى / منذ ارضنا كنا يدا.. / يدا “تصافح الرفيق في الكفاح.. لا العدا..
الى ان يقول:
فنحن شعب لا ينال الضيم منا ما يشاء / هاماتنا فيها من الشمس بريق الكبرياء / لا نعرف الدموع الا نحيلها دماء / تعلو على ضفافها بواسق الاباء / وكلما مرت بنا اعوامنا الطويلة/ نغرس من ثورتنا بذورنا الاصيلة/ في كل جيل صاعد يؤمن بالضياء / بالأرض.. بالمعمل.. بالسلاح.. بالبناء
ان بقاء الاستعمار كل تلك الاعوام الطويلة اكثر من قرن من الزمان لم تكن الا برهة ضرورية للاعداد للثورة، او لامتلاك المعرفة والقوة في استخدام السلاح الذي تمكن الاستعمار من استخدامه ضدنا بفعالية اكبر يقول الشاعر:
ومن هنا تصلبت عقيدة السلاح / ونحن منذ خلقنا نعرف ما معنى السلاح/ نعرفه.. ونرضع الاطفال منه للكفاح.
لم يتمكن الاستعمار من هزيمتنا من الداخل، من هزيمة انفسنا، كانت فرحة الانتصار تملأ انفسنا والوجدان:
وننتشي، نرتقب الفجر الجديد في شمم / حتى بيوتنا التي طلاؤها الغبار حيث عم /ترمي على سمائنا ظلالها وتبتسم.
سلاحنا الوحيد كان هو الرهان على الزمن.. ان الاستعمار مسألة وفت، ومهما طالت اعوامه فإنه لامحالة سوف ينهزم وننتزع حريتنا منه انتزاعا.. ولهذا كنا نرتقب الفجر الجديد في شمم اي في ترفع وتكبر واعتزاز، مدركين انه لكل ليل نهاية ولابد للحق ان يزهق الباطل ولا يمكن الا ان تنتصر على جلاديها الذي لا يستطيعون ايقاف عجلة الزمن واستمراريته في موضوعية صارمة لا ترحم. يقول الشاعر:
وانتفض الزمان / دق الساعة الاخيرة / فاندفعت جموعنا غفيرة.. غفيره /تهز معجزاتها في روعة المسيرة / وجلجلت ثورتنا تهيب بالأبطال: / الزحف يا رجال.. الزحف والنضال / فكلنا حرية تحن للقتال
ونصل مع الشاعر الى المقطع الاخير في القصيدة، وهو المقطع السابع، ونعود مع فلادمير بروب الى التوازن بعد خروج الاستعمار وتحقيق الاستقلال بحسب المعادلة التالية: توازن – انعدام التوازن – عودة التوازن (8) يقول الشاعر :
وهكذا تبددا / عهد من الطغيان لن يجددا / وحلقت على المدى / ثورتنا.. تهتف فينا ابدا: / ياعيدنا المخلدا / غرد.. / فإن الكون من حولي طليقا غردا/ غرد على الافنان في ملاعب الجنان :/ الشعب لن يستعبدا / فقد نال حريته بالدم والنيران.
وبعد …لقد حاولت سريعا ان أقف أمام قصيدة من أجمل قصائد الشاعر الكبير لطفي جعفر امان، وهي بحاجة الى قراءة متأنية، تواصل استكشاف العلاقات الدلالية والجمالية للقصيدة لما يحمله هذا النص من ثراء جمالي بديع ومقدرة ابداعية خلاقة لشاعرنا الكبير الذي ترك تأثيره الشعري والثقافي على الاجيال التي عاصرته والاجيال اللاحقة.
 

  • مصطلح (مورفيم ) مأخوذ من الكلمة اليونانية (morpheme) بمعنى شكل أو صيغة ويقابلها في الإنكليزية[ from] استبدلت بالكلمة كوحدة أساسية للكلام بالمورفيم وأصبحت البنيوية تعرف (المورفور تركيب) المستوى الأعلى :الكلمات – المركبات – الجمل. ( ويكيبيديا).

 
 
الهوامش :
1) ادوارد سعيد، الاستشراق (المعرفة) السلطة، الانشاء، نقله الى العربية كمال ابو ديب، مؤسسة الابحاث العربية، بيروت ، لبنان ص : 206
2) لطفي جعفر امان، الاعمال الشعرية الكاملة، الجزء الثاني، مؤسسة 14 اكتوبر للصحافة والطباعة والنشر عدن، الجمهورية اليمنية ص: 260-267
3) سيزا قاسم، بناء الرواية، دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت/ لبنان ص: 38
4) اعتدال عثمان، النص، نحو قراءة نقدية ابداعية لأرض محمود درويش. مجلة فصول، مجلة النقد الادبي، المجلد الخامس، العدد الاول، اكتوبر / نوفمبر/ ديسمبر 1984، الهيئة المصرية العامة للكتاب، جمهورية مصر العربية ص :191
5) فريال جبوري غزول، فيض الدلالة، وغموض المعنى في شعر محمد عفيفي مطر، مجلة فصول، مجلة النقد الادبي، المجلد الرابع العدد ابريل / مايو / يونيو 1984 الهيئة المصرية العامة للكتاب جمهورية مصر العربية ص 175
6) يحى أحمد، الاتجاه الوظيفي ودوره في تحليل اللغة، عالم الفكر – المجلد العشرون -العدد الثالث، اكتوبر/ نوفمبر / ديسمبر 1984 وزارة الاعلام في الكويت ص: 69
7)محمد بنيس، ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب، مقاربة بنيوية تكوينية، الطبعة الثانية، دار التنوير للطباعة والنشر(بيروت) والمركز الثقافي العربي (الدار البيضاء) ص :61
8) سمير المرزوقي وجميل شاكر، مدخل الى نظرية القصة، تحليلا وتطبيقا ، مشروع النشر المشترك ، دار الشؤون الثقافية العامة (آفاق عربية ) ، بغداد ، الدار التونسية للنشر الطبعة الاولى1986 ص : 19-51

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى