آداب و ثقافة

الإخباريين وقراءاتهم للمساند

[su_label type=”info”]سمانيوز/آداب وثقافة/أعداد هشام صويلح[/su_label] كان للهمدانيين مثل القبائل الأخرى إلهٌ خاص بهم، اسمه “تالب” “تألب” اتخذوا لعبادته بيوتًا في أماكن عدة من “بلد همدان”, وقد عرف أيضا في المسند بـ”تالب ريمم” “تألب ريمم”، أي: “تألب ريام”(1) . وقد انتشرت عبادته بين همدان، وخاصة بعد ارتفاع نجمهم واغتصابهم عرش سبأ من السبئيين، فصار إله همدان، بتعبد له الناس تعبدهم لإله سبأ الخاص “المقه”، فتقربت إليه القبائل الأخرى، ونذرت له النذور. ونجد في الكتابات أسماء معابد عديدة شيدت في مواضع متعددة لعبادة هذا الإله، وسميت باسمه.
وقد تنكر الهمدانيون فيما بعد لإلههم هذا، حتى هجروه. ولما جاء الإسلام كانوا بتعبدون -كما يقول ابن الكلبي- لصنم هو “يعوق”، وكان له بيت بـ”خيوان”(2) وقد نسوا كل شيء عن الإله “تألب ريام”، نسوا أنه كان إلهًا لهم، وأنه كان معبودهم الخاص، إلا أنهم لم ينسوا اسمه، إذ حولوه إلى إنسان، زعموا أنه جد “همدان” وأنه هو الذي نسل الهمدانيين، فهم كلهم من نسل “تألب ريام”.
ولم يكتفِ الهمدانيون بتحويل إلههم إلى إنسان، حتى جعلوا له أبًا سموه “شهران الملك”، ثم زوَّجوه من “ترعة بنت يازل بن شرحبيل بن سار ابن أبي شرح يحضب بن الصوار(3) وجعلوا له ولدًا منهم “يطاع”، و”يارم”.
وأما أبوه “شهران” -على حد قول أهل الأخبار- فهو ابن “ريام بن نهفان”، صاحب محفد “ريام”. وأما “نهفان” والد “ريام”، فهو ابن “بتع” الملك، وشقيق “علهان بن بتع”، وكان ملكًا كذلك, وأمهما “جميلة بنت الصوَّار بن عبد شمس“(4) وأما “بتع”، فهو ابن “زيد بن عمرو بن همدان(5).
وإذا دققنا النظر في هذه الأسماء، أسماء الآباء والأجداد والأبناء والبنات والحَفَدة والأمهات، نجد فيها أسماء وردت حقًّا في الكتابات، إلا أن ورودها فيها ليس على الصورة التي رسمها لها أهل الأخبار. فـ”ترعة” مثلا، وهو اسم زوجة “تألب ريام” المزعومة، لم يكن امرأة في الكتابات، وإنما كان اسم موضع شهير ورد اسمه في الكتابات الهمدانية، عرف واشتهر بمعبده الشهير المخصص لعبادة الإله “تألب ريام”؛ معبد “تألب ريام بعل ترعت(6) والظاهر أن الأخباريين -وقد ذكرت أن منهم من كان يستطيع قراءة المساند لكن لم يكونوا يفهمون معاني هذه المساند كل الفهم- لما قرءوا الجملة المذكورة ظنوا أن كلمة “بعل” تعني الزواج كما في لغتنا، فصار النص بحسب تفسيرهم “تألب زوج ترعت”. وهكذا صيَّروا “ترعت” “ترعة” زوجة لـ”تألب ريام”، وصيروا “تألب ريام” رجلًا زوجًا؛ لأنهم لم يعرفوا من أمره شيئًا.
و”أوسلة” الذي جعلوا اسما لـ”همدان” والد القبيلة، هو في الواقع “أوسلت رفش” في كتابات المسند(7) وهو والد “يرم أيمن” “يريم أيمن” “ملك سبأ”. وقد عرف “الهمداني” اسم “أوسلت رفشن” “أوسلة رفشان”، فذكر في كتابه “الإكليل” أن اسمه كان مكتوبًا بالمسند على حجر بمدينة “ناعط” ودوّن صورة النص كما ذكر معناه(8) . ويظهر من عبارة النص ومن تفسيره أن “الهمداني” لم يكن يحسن قراءة النصوص ولا فهمها، وإن كان يحسن قراءة الحروف وكتابتها. ولم يتحدث “الهمداني” بشيء مهم عن “أوسلة رفشان” في الجزأين المطبوعين من “الإكليل”، وقد ذكره في الجزء الثامن في معرض كلامه على حروف المسند، فأورده مثلًا على كيفية كتابة الأسطر والكلمات(9) وذكره في الجزء العاشر في “نسب همدان”، في حديثه عن “يطاع” و”يارم” ابني “تألب ريام بن شهران” على حد قول الرواة، ولم يذكر شيئًا يفيد أنه كان على علم به(10) وأرى أن أهل الأنساب أخذوا نسبهم الذي وضعوه لـ”أوسلة” ولغيره من أنساب قبائل اليمن القديمة من قراءتهم للمساند. وقد كان بعضهم -كما قلت- يحسن قراءة الحروف، إلا أنه لم يفهم المعنى كل الفهم، فلما قرءوا في النصوص “أوسلت رفشن بن همدان”(11) أي: “أوسلة رفشان من قبيلة همدان”، أو “أوسلة رفشان الهمداني” بتعبير أصح، ظنوا أن لفظة “بن” تعني “ابن”؛ ففسروا الجملة على هذا النحو: “أوسلة رفشان بن همدان” وصيروا “أوسلة” ابنًا لهمدان، مع أن “بن” في النص هي حرف جر بمعنى “من”، وليست لها صلة بـ”ابن”.
و”أوسلت” “أوسلة” مركبة من كلمتين في الأصل، هما: “أوس”: بمعنى “عطية” أو “هبة”، و”لت” “لات”، وهو اسم الصنم “اللات”، فيكون المعنى “عطية اللات”، أو “هبة اللات”.(12)
وقد ذكر “نشوان بن سعيد الحميري” أن “علهان اسم ملك من ملوك حمير (ليس من حمير بل من سبأ)، وهو علهان بن ذي بتع بن يحضب بن الصوار، وهو الكاتب هو وأخوه نهفان لأهل اليمن إلى يوسف بن يعقوب -عليهما السلام- بمصر في الميرة, لما انقطع الطعام عن أهل اليمن”, ففرق “نشوان” بين “علهان” و”نهفان”، وظن أنهما اسمان لشقيقين. وقد دون “الهمداني” صور نصوص ذكر أنه نقلها من المسند، وفرق فيها أيضا بين “علهان” و”نهفان”، فذكر مثلًا أنه وجد “في مسند بصنعاء على حجارة نقلت من قصور حمير وهمدان: علهان ونهفان، ابنا بتع بن همدان”(13) و”علهن ونهفن ابنا بتع بن همدان صحح حصن وقصر حدقان..”(14)
فعد “علهان” اسمًا، و”نهفان” اسم شقيقه. وقد ذكر الاسم صحيحًا في موضع، ولكنه عاد فعلق عليه بقوله: “وإنما قالوا علهان نهفان، فجعلوه اسمًا واحدًا؛ لما سمعوه فيهما من قول تبع بن أسعد:
وشمر يرعش خير الملوك … وعلهان نهفان قد أذكر
iوإنما أراد أن يعرف واحدًا بالثاني، فلما لم يمكنه أن يقول: العلهانان, قال: علهان نهفان”(15) ويلاحظ أن قراءة “الهمداني” للمسند الأول، هي قراءة قُرِئت وفق عربيتنا، فجعل “علهن” “علهان” و”نهفن” “نهفان” و”همدن” “همدان”، أما قراءته للمسند الثاني، فهي على نحو ما دوّن في المسند، وذلك بالنسبة إلى الأعلام، فإن المسند لا يكتب “علهان” بل يكتبه “علهن”، وهكذا بقية الأسماء.
ونسب “نشوان بن سعيد الحميري” هذا البيت إلى “أسعد تبع”، وعلق على اسم “علهان نهفان” بقوله: “أراد علهان ونهفان“(16) فـ”علهان نهفان” إذن اسما رجلين على رأي هذين العالمين، وعلى رأي عدد آخر من العلماء مثل “محمد بن أحمد الأوساني” أحد من أخذ “الهمداني” علمه منهم, وهو في الواقع اسم واحد لرجل واحد. ولا أدري كيف أضاف “الهمداني” و”الأوساني” وغيرهما ممن كان يذكر أنه كان يقرأ في المسند حرف “الوأو” بين “علهان نهفان”، فصيروه “علهان” و”نهفان”، وجعلوهما اسمين لشقيقين(17) وقد أدى سوء فهم أهل الأخبار لقراءاتهم للمساند إلى اختراع والد للأخوين “علهان” و”نهفان”، أو لـ”علهان نهفان” بتعبير أصح، فصيروه “بتع بن زيد بن عمرو بن همدان” (18) أو “ذا بتع بن يحضب بن الصوَّار”(19) وعرف “نشوان” “ذا بتع” بأنه “ذو بتع الأكبر”، وهو ملك من ملوك حمير، واسمه نوف بن يحضب بن الصوار، من ولده ذو بتع الأصغر زوج بلقيس بنة الهدهاد ملكة سبأ(20) وصيروه “تبعًا”، فقالوا: “علهان نهفان ابنا تبع بن همدان“(21) ويظهر أن النساخ قد وقعوا في حيرة في كيفية كتابة اسم والد “علهان”، فكتبوه “بتعًا”، وكتبوه “تبعًا”, وكلا الاسمين معروف شهير، فوقعوا من ثم في الوهم.
وأما اسم الوالد الشرعي الصحيح فهو “يرم أيمن”، كما ذكرت، وأما الاسم المخترع، فقد جاءوا به من عندهم بسبب عدم فهمهم لقراءة نصوص المسند. فقد وردت في النصوص جملة “علهن نهفن بن بتع وهمدان”(22).
فظن قراء المساند من أشياخ “الهمداني” وأمثالهم “ممن كانوا يحسنون قراءة الحروف والكلمات، إلا أنهم لم يكونوا يفهمون معاني الألفاظ والجمل في الغالب” أن لفظة “بن” تعني هنا “ابن”، فقالوا: إن اسم والد “علهان نهفان” أو “علهان” و”نهفان” على زعمهم إذن هو “بتع”. على حين أن الصحيح، أن “بن” هي حرف جر يقابل “من” في عربيتنا، ويكون تفسير النص: “علهان نهفان من بتع وهمدان” و”بتع” اسم قبيلة من القبائل المعروفة المشهورة.
وأما “بتع” فقد ذكرت أن النساخ هم الذين أخطئوا في تدوين الاسم، وأن “الهمداني” وغيره كانوا قد كتبوه “بتعًا”، لا “تبعًا”. ولكن النساخ أخطئوا في الكتابة، فكتبوا اسم “بتع” “تبعًا” على نحو ما شرحت.
وورد في النص الموسوم بـGlaser 865 اسم “علهان نهفان”, وقد رأيت نقله هنا؛ لأن في ذلك فائدة في شرح اسم أبيه(23) فقد ورد فيه: “علهن نهفن بن همدن بن يرم أيمن ملك سبأ”، أي: “علهان نهفان من همدان ابن يرم أيمن ملك سبأ”. فأنت ترى أن لفظة “بن” المكتوبة قبل “همدن”، أي “همدان” هي حرف جر, أما “بن” الثانية المذكوة قبل “يرم أيمن” فإنها بمعنى “ابن”، فصارت الأولى تعني أن “علهان نهفان” هو من قبيلة همدان، وأما أبوه، فهو “يرم أيمن ملك سبأ”، ولعدم وقوف أولئك العلماء على قواعد العربيات الجنوبية، لم يفهموا النص على حقيقته.
 
 
المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام / الجزء الثاني
د.جواد علي
 
 
1) CIH, IV, I, IV, P. 529
2) الأصنام “ص57″، “ومن بطون همدان أيضًا, بطن يقال لهم: بنو قابض بن يزيد بن مالك بن جشم بن حاشد بن جشم، وكان عمرو بن لحي دفع إلى قابض المذكور صنمًا اسمه يعوق، فجعله في قرية باليمن يقال لها: خيوان، فكان يعبد من دون الله … “، ابن حزم، جمهرة “ص371”.
3) الإكليل “10/ 17 وما بعدها”.
4) الإكليل “10/ 13 وما بعدها”.
5) الإكليل “10/ 11 وما بعدها”.
6) CIH 337, 338, IV, I, IV, p.388, 390, 391
7) Glaser, abessi, S, 63, Glaser 1320, 1359, 1360
8) الإكليل “10/ 18″، كتب أنستاس ماري الكرملي الاسم على هذا الشكل: “أوسلة رلشان”، “8/ 142″، أما “نبيه أمين فارس” فقد كتبه “أوسلة رلشن”، وأعتقد أن هذا الخطأ في النقل إنما أحدثه النساخ، وأن “الهمداني” كان يعرف الاسم معرفة صحيحة، بدلالة كتابته كتابة صحيحة في الجزء العاشر, الذي نشر بتحقيق محب الدين الخطيب. وقد نقضت الكلمة الأولى من الاسم المدون نقشًا قريبًا جدًّا من الصحة في طبعتي الكرملي ونبيه. أما الكلمة الثانية من الاسم وباقي النص، فقد حرفها النساخ على ما يظهر تحريفًا قبيحًا أبعدها عن الصواب.
9) الإكليل “8/ 123”
10) الإكليل “10/ 18”
11) Glaserabessi., S. 63, Glaser 1320, 1359, 1360
12) Glaser, Abessi., S. 63
13) الإكليل “10/ 15”.
14) الإكليل “10/ 16”.
15) الإكليل “10/ 33″، “حب الملوك” “2/ 389”
16) منتخبات “ص75”.
17) الإكليل “8/ 83”.
18) الإكليل “10/ 11، 13”
19) منتخبات “ص75، 105
20) منتخبات “ص5”.
21) الإكليل “8/ 42، 83” “طبعة نبيه”، “8/ 51، 103” “الكرملي”.
22) المختصر “ص26″، Glaser 16, Louvre 10, CIH, IV, I, I, P. 8.
23) Glaser 865, Berlin 2679, CIH 312, IV, I, IV, P.337
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى