آداب و ثقافة

لقاء الأرواح بعد غياب خاطرة/ مريم أبو زيد

سمانيوز/خاص

بعدَ الغيابِ الذي امتدَّ كليلٍ بلا نجوم، ها أنا أعبرُ أخيرًا دهاليزَ الذاكرةِ نحو النور..

لم أعدُ ذلك الظلَّ الحائرَ بين جدرانِ الألم، بل أصبحتُ حديقةً تزهرُ بالصمتِ، تترقبُ بزوغَكَ كفجرٍ ينسابُ بين أغصانِ الوجود. ذاكرتي التي كانت نهرًا متجمدًا من الأسئلة، صارتْ الآنَ محبرةً أكتبُ منها ملحمةَ اللقاء.

في قلبي – ذلك الوعاءُ الذي احتضنَ جراحَ السنين – أرى اليومَ دروسَ الماضي تنسجُ خيوطَها الذهبية، لتبني جسورًا من الضياءِ نحو غدٍ نلتقي فيه. لقد كان الغيابُ محطةً لا نهاية، والفراقُ فصلًا من فصولِ اللقاء.

الليلُ الذي كان بحرًا بلا شواطئ، بدأ يتراجعُ أمامَ موجةِ النورِ الآتيةِ من أفقِ روحك. والرجاءُ الذي ذابَ كالندى، عادَ يتبارى مع النجومِ في رسمِ دربِ العودة.

في هذه العتمةِ التي سبقتِ الفجر، تبرزُ صورتُكَ كَنُورَسٍ يحملُ في منقارهِ غصنَ زيتونٍ بعد طوفانِ الغياب. لستَ حلمًا جميلاً أفتقده، ولا ذكرى أهربُ منها، بل أنت الموطنُ الذي طالما حلمتُ بالرسوِّ على شواطئه. أنت الوجهُ الآخرُ لروحي، والضفةُ التي كانت تنتظرُ عودةَ القاربِ بعد رحلةِ التيه.

أسئلتي الوجوديةُ الكثيرة، التي كانت تتصارعُ في أعماقي كأمواجٍ هائجة، هدأتْ أخيرًا، وبدأتْ تتراقصُ كأوراقِ الخريفِ الذهبيةِ، تستعدُ لربيعٍ قادم. في هذا الصمتِ المُنير، أطلقُ العنانَ لقلبي كي يكتبَ على جدرانِ الليلِ قصيدةَ اللقاء، وعلى أجنحةِ الريحِ أغنيةَ العودة، وعلى أوتارِ القيثارةِ نغمةَ الاكتمال.

في تلكَ الألحانِ السماوية، وجدتُ أخيرًا إجابةَ السؤالِ الذي طالما حيَّرَ وجودي: من أنا؟

أنا الندى الذي يروي ظمأَ الزهورِ في حديقتك، أنا الظلُّ الذي رقصَ معَ نورك في ليالي الغياب، أنا الروحُ التائهةُ التي عادتْ أخيرًا إلى موطنها الأول. وأنت الضوءُ الذي كان ينتظرني في نهايةِ النفق، الشمعةُ التي أضاءتْ دربي حينَ حَلَّ الظلام.

سنلتقي بعدَ هذا الغيابِ الطويل، لنحوِّلَ ذكرياتِ الألمِ إلى وقودٍ لشمسٍ لا تغيب، ولنصنعَ من جراحِ الماضيِ حديقةً تزهرُ بالأمل. سننسجُ من لحظاتِ الانتظارِ سجفًا من نور، ونخطُّ على جبينِ الزمنِ قصةَ لقاءٍ ينتصرُ على فراق.

ها أنا آتٍ إليكَ على جناحِ الصباح، حاملًا بينَ أصابعي بذورَ الأمل، وعيناي ترَيان في الأفقِ بصيصًا من نجمك. لقد تعلمنا من رحلةِ الغيابِ أن الظلامَ ليس سوى دعوةٍ للضوءِ كي يشرقَ بأجملَ مما كان، وأن الفراقَ ما هو إلا معبدٌ مقدسٌ نعدُّ فيهِ قلوبنا للقاء.

لن نضيعَ مرةً أخرى في دهاليزِ الذاكرة، فقد اكتشفنا أن الحبَّ هو البوصلةُ التي تقودُ الضالَّ إلى موطنِ النور. سنمشي معًا على شاطئِ الأبدية، نخطُّ بأقدامنا قصيدةَ لقاءٍ ترويها النجومُ للأجيال القادمة.

كلماتُ الوداعِ للغياب:
أيها الغيابُ الذي علَّمنا قيمةَ اللقاء، ها نحنُ نودعُك اليومَ بحمدٍ وشكر. لقد كنتَ المعلِّمَ القاسيَ الذي منحنا أعظمَ الدروس: أن النورَ لا يُدرَكُ قيمتُه إلا بعدَ ظلام، وأن اللقاءَ لا يُعاشُ عمقُه إلا بعدَ فراق.

الآنَ ننثرُ على قبركِ يا غيابُ ورودَ الشكر، ونعلنُ ميلادَ لقاءٍ سيظلُّ يرويهِ الزمان.

لقاءُ الأرواحِ بعدَ غياب – هو المعجزةُ الوحيدةُ التي تنتصرُ على قسوةِ الزمن، وهو الدليلُ الأبديُّ على أن الحبَّ أقوى من كلِّ مسافاتِ الغياب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى