من طردوا بريطانيا بالسلاح.. هل يُهزمون اليوم بالجهل؟

كتب:
مصلح عبده سالم
عندما كان العدو واضح في الزمن الماضي، لم يكن الجنوبيون بحاجة إلى كثير من الشرح ليعرفوا من هو العدو. كانت البوارج البريطانية ترسو في الميناء، والدبابات تدوس طرقات عدن، والأوامر تصدر من لندن. لم يكن ثمة غموض في المعركة، ولا التباس في الموقف. فهبّ الشعب الجنوبي، من ردفان إلى الضالع، من يافع إلى لحج وعدن، يحمل بندقية قديمة أو سيفًا صدئًا أو حتى حجرًا، ليقول: لا.
قالها الجنوبيون مائة وتسع وعشرين عام في وجه أكبر إمبراطورية عرفها التاريخ الحديث. لم يكن لديهم سلاح متطور، ولا خبرة في حرب العصابات، ولا قنوات فضائية تمهد للرأي العام. كانوا فقراء إلا من الكبرياء، مجردين إلا من الإيمان بالحق، ومع ذلك انتصروا.
وما أشبه اليوم بالأمس.. وما بعده!
واليوم، والذي يظن البعض أن المعركة قد انتهت. لا مستعمر يحكم الأرض، ولا جنود أجانب يجوبون المدن. لكن الحقيقة أكثر مرارة: لقد خرج الاستعمار من الأرض، وعاد إلى العقول. ما فشل الإنجليز في فرضه بالقوة، ينجح فيه الجهل اليوم بصمت.
لم نعد نخسر المعارك لأننا بلا سلاح، بل لأننا بلا فكر. لم نعد نُهزم في الميدان، بل في المدرسة، في الجامعة، في البيت. نحن نحارب عدواً أكثر خطورة من بريطانيا: عدو لا نراه، لا يرتدي زيًا عسكريًا، لكنه يسرق منا وعينا وتاريخنا ومستقبلنا.
من هزموا بريطانيا.. كيف أصبحوا احفادهم ضحية الجهل؟
عندما كان أجدادنا يطاردون المستعمر البريطاني في الجبال والسهول، لم تكن لديهم رفاهية التعليم ولا أدوات التحليل السياسي، لكنهم امتلكوا وعيًا بدائيًا عظيمًا: “هذه أرضنا، وهذا محتل”. اليوم، ومع كل المدارس والجامعات والمنصات الاعلامية، نغرق في جهل مركّب. جهل لا يتعلق بالقراءة والكتابة فحسب، بل جهل في فهم الواقع، وتشخيص الأزمة، وتحديد العدو .
الجيل الجديد يعرف أسماء لاعبي الكرة أكثر من أسماء شهداء التحرير. يحفظ مقاطع الترفيه أكثر من تاريخه المقاوم. يفتخر بالسلاح في الصور، لكنه لا يعرف لماذا حُمل السلاح أصلًا.
والسلاح الذي لا يقوده فكر.. يتحول إلى عبء على حاملة
من السهل أن تحمل سلاحًا. التدريب عليه لا يستغرق إلا أيامًا. لكن الأصعب أن تعرف متى تستخدمه، ولماذا. وأن تفهم أن معارك اليوم لا تُخاض في الجبال، بل في الصفوف الدراسية، في ساحات الثقافة، في المعارك الفكرية.
لقد خسرنا اليوم زمام المبادرة لأننا سلمنا العقول للإهمال، والتفكير للكسل، والتعليم للسطحية. نحن جيلٌ يفاخر بالسلاح، لكنه لا يقرأ. يتحدث عن الكرامة، ولا يعرف كيف تُصان. يتغنّى بالبطولات، ولا يبني مستقبلًا يليق به.
في زمن التحرير، لم يكن لدينا نخب كثيرة، لكننا كنا نمتلك ضميرًا شعبيًا حيًا. اليوم، لدينا آلاف من خريجي الجامعات، لكن معظمهم بلا مشروع، بلا رؤية، بلا قدرة على المواجهة الفكرية. غابت القيادات الثقافية، وانشغلت النخب بالصراعات الهامشية، بينما ضاعت الأجيال الجديدة بين شبكات التواصل الاجتماعي والفراغ التربوي.
فالمعركة لم تنتهِ بعد
إذا كنا قد انتصرنا بالأمس على بريطانيا بالبندقية، فإن معركتنا اليوم أشد وأطول وأخطر. إنها معركة مع النفس، مع الجهل، مع اللامبالاة، مع التبعية الثقافية والانهيار التعليمي. وإن لم ننهض بفكرٍ جديد، يستلهم إرث المقاومة ويعيد بناء الإنسان الجنوبي على قاعدة من الوعي، فإننا سنخسر ما هو أثمن من الأرض: هوية الإنسان، وكرامة العقل.
فالمجد لا يُصان بالبندقية وحدها، بل بما يُحمى به العقل من الانكسار.