مقالات

الشيب: ذاكرة الأوجاع التي لم تقل وداعًا

كتب: د. مريم العفيف

الشيب… ما هو إلا صلاة بيضاء ترتسم على رؤوسنا، لِتُخبرنا أن الروح قد مرّت بمقاماتٍ من الصبر والبكاء، وأنّ العمر لم يترك آثاره على الجسد وحده، بل أوكل إلى الشعر مهمة حمل سرّ الأوجاع التي لم تُقَل. هو ليس شيخوخة فانية كما يراه العابرون، بل أثرُ رحلةٍ طويلة بين النفس وربها، بين القلب وأثقاله، بين الروح وجراحها.

كل شعرة بيضاء هي ذكرى صلاةٍ لم يسمعها أحد، دعاء خرج من أعماق الروح في ليلٍ طويل ولم يلقَ جوابًا سوى الصبر، آهٌ لم تخرج من الفم لكنها تسرّبت في الجسد، جرحٌ أُلقي على القلب حتى اعتاد عليه، فانطبع على الرأس أثرًا من نورٍ ممزوجٍ بالألم. هكذا يتجسد الشيب: شاهدًا على أنّ الروح قد مشت في وادي الصبر حفاة، وأنها لم تخرج إلا وهي محمّلة بضياءٍ داخليٍ يتجلّى في هذا البياض.

الشيب عند العارفين ليس عجزًا، بل مقام. مقام من عبروا النار وبقوا أحياء، من حملوا أوجاعهم بصمت حتى تحولت إلى أنوار، من أدركوا أن كل وجعٍ هو معراجٌ خفيّ، يرفعهم من حضيض الدنيا إلى أفقٍ أبعد. البياض في الشعر هو توبة الجسد عن أوهام القوة، هو سجودٌ طويل أمام مرآة الحياة، هو تسليمٌ بأننا لا نملك الزمن ولا نملك أنفسنا، وإنما نملك فقط أن نحتمل حتى يأتينا الله بالسكينة.

وما أجمل هذا الغزو الأبيض حين نفهمه على حقيقته: ليس غزوًا يُنهكنا، بل تطهيرٌ يُنقّينا. إنّه غزو النور للظلمة، غزو الرضا للجزع، غزو الصمت للضجيج. هو الوجه الآخر للوجع حين يتجلّى في هيئة جمالٍ صامت، في هيئة وقارٍ يجعل الروح أكثر شفافية، والقلب أكثر قربًا من الله.

الشيب هو الذكرى التي لم تُمحَ، الوجع الذي لم يقل وداعًا، لكنه عاد إلينا بلغةٍ مختلفة. لم يعد صرخةً ولا دمعة، بل صار علامة. وكأن الله يقول لنا: “لقد مررتم من هنا، ونجوتم، وهذا البياض شاهدكم.” فكل شعرة بيضاء شهادة، كل خط أبيض توقيع إلهي على معركةٍ صامتة خرجنا منها أكثر قربًا لا أكثر ضعفًا.

أيها الشيب، ما أنت إلا الأوجاع وقد تحوّلت إلى ملحٍ يضيء. ما أنت إلا ليلٌ طويل صار فجرًا، وجراحٌ قديمة صارت نورًا. أنت ذاكرة الروح التي ترفض أن تنسى، لأن في التذكر معنى، وفي الألم رسالة، وفي البياض سرّ البقاء.

فلا نقول لك وداعًا، بل نقول: مرحبًا بك شاهدًا ورفيقًا. فأنت الدليل أننا لم نعش عبثًا، ولم نبكِ بلا أثر، ولم نُكسر دون أن ننهض. أنت ختم الرحلة على جبين الزمن، وأنت زاد الروح وهي تمضي إلى مقامها الأخير، أكثر نقاءً وأعمق وعيًا.

يا ربّ، إن كان الشيب أثر أوجاعنا، فاجعل من بياضه نورًا يضيء طريقنا إليك.
وإن كان شاهدًا على ما انكسر فينا، فاجعل منه جسرًا نعبر به نحو رحمتك.
اللهم اجعل كل شعرة بيضاء سترًا على خطايانا، وكل خطٍ من خطوط الزمن شهادة على صبرنا، واجعلنا نلقاك وقد تحوّل وجعنا إلى نورٍ، وحزننا إلى طمأنينة، وذاكرتنا إلى يقينٍ لا يزول.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى