نزعة الحزن في الشعر العربي المعاصر
كتب :
لطيفة الأعكل
لا يكاد القارئ يفتح ديواناً شعريا لأحد الشعراء من القدماء أو من المحدثين والمعاصرين إلاّ ويلمس أن غيمة ثقيلة من الحزن والألم، والمعاناة ، وفراق الأحبة قد نشرت رداءها وحجبت نور الشمس في سماء صفحاته. والغريب في الأمر أن مثل هذا الإيقاع الموسيقي الروحي الحزين يستهوي ويستميل النفوس والأذواق لأسباب قد يكون منها ملامسة الأحاسيس ، وانعكاس ذلك الشعور على واقعهم المعاش ، وتجربتهم الحياتية في محيطهم الاجتماعي.
وللإشارة فإن أغلب الشعراء يعانون من غربة روحية ، واغتراب جراء ابتعادهم عن أوطانهم بسبب الاضطرابات السياسية ، والاجتماعية ، والاقتصادية.
أو عشاقاً فاض بهم الوجد ، والحنين لأحبة غادروا وآخرين رحلوا ، تخطفهم الموت ودُفنوا تحت الثّرى .
وهذه المعاناة والضياع والشعور بالاغتراب لم تقتصر على الشعراء المعاصرين فحسب ، بل بلغت أقصى مدى لها لدى شعراء العصر العباسي الذي كان يحبل بشتى أنواع الاضطرابات والانكسارات . وقد انعكس ذلك على نفسية الشعراء فاتّسمت أشعارهم بالتشاؤم النفسي والشكوى من الدهر وبرز ذلك بدرجة كبيرة في شعر ابن الرومي وأبي العلاء المعرّي .
وقد جسد هذا الأخير مأساة الحزن في أشعاره ، وبلغ التشاؤم النفسي لديه مبلغه . ذلك أنّه كان أعمى وحُرم من لذّة الحياة الدنيا . وهو القائل :
أراني في الثّلاثة من سجوني
فلا تسأل عنِ الخبر النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي
وكون النفس في الجسد الخبيث
وفي هذين البيتين يتجلى الفرق بين من يدرك حقيقة حزنه/ مأساته ، وبين من يعيش ذلك الحزن دون إدراك .
يتساءل المعري قائلاً :
أبكت تلكم الحمامة أم غنت على فرع غصنها المياد
يقول : (د .عز الدين اسماعيل في كتابه قضايا الشعر المعاصر ) إنّ أبا العلاء المعري قد عبّر في هذا البيت عن ” مأساة الوجود الذي يمتزج فيه البكاء بالغناء، أو الحزن بالسعادة .وهو من أجل ذلك يُعبر عن حزن هو أعمق من أحزان الآخرين وإن لم يذرف دمعة ”.
ومعنى هذا أن الحالة النفسية والمعنوية للإنسان هي التي تجعله يسمع من صوت الحمامة البكاء ، وهي التي تجعله يسمع من صوت الحمامة الغناء .
أما بالنسبة للشعر المعاصر فنلمس أن نزعة الحزن قد هيمنت عليه وأصبحت توأم روح الشاعر لا تفارقه .
وأصبح كل ما يُقرأ من هذا الشعر يعزف على وتر الحزن والألم والشكوى ، وكأن الحياة عتمة لا يوجد بها بصيص نور يضيء بعضاً من سمائها.وظلّ الشاعر يميل ، ويسعى لتضمين الجهامة والسواد في جُلّ أشعاره بدل البهجة والسرور والأمل.
وقد أوعز النقاد ذلك الأمر إلى تأثر شعرائنا المعاصرين أمثال بدر شاكر السياب ، وصلاح عبد الصبور ، ونازك الملائكة ، ومحمود درويش وغيرهم بنزعة الحزن عند الشاعر الأوروبي وخاصة تأثرهم الكبير بقصيدة “الأرض الخراب “ للشاعر الإنجليزي ت. س.إليوت أحد رواد الحداثة في الأدب الغربي. وهذه القصيدة تجسد مدى سواد الرؤيا المستقبلية والانحطاط الأخلاقي والانهيار النفسي الذي أصاب جيلا كاملاً بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.
هكذا يتضح أن المعرفة أصبحت مصدراً للحزن عند الشاعر . فقد كان الشاعر منذ القديم لسان حال قومه .وها هو اليوم يعيش واقعا مختلفاً ،ومتغيراً ، متفتتاً ،ومتناقضاً .وهو ملزم بأن يبحث عن حلول لذلك .
يقول الشاعر صلاح عبد الصبور :
يا من يدُلّ خطوتي على طريقِ الدمعة البريئة
يا من يدل خطوتي على طريق الضحكة البريئة
أُعْطيك ما أعطتني الدنيا من التجريب والمهارة
لقاء يـوم واحد من البكارة
فكل شيء في نظر الشاعر أصبح مزيفاً. فالدمعة لم تعد بريئة ، والضحكة أيضا فقدت براءتها ، وكل تجارب ومهارات الشاعر لم تعد ذات قيمة ، ولاتعادل يوما واحداً بكراً.
أما الحب بالنسبة للشاعر المعاصر فقد
كان ملاذاً للذات الفردية تعيشه وهماً وحلماً سعيداً . وإن صح القول ( جرعة تخدير للذات ) د . عز الدين إسماعيل.
غير أن تجربة الحب لم تعد ناجعة ولا قادرة على التخدير ، ولا على تحقيق الطمأنينة والسكينة لروح الشاعر بل زادت من صراعه مع ذاته ،وزادت من حزنه واكتئابه إلى أن مات الحب ولم يعد “تيمة “.
ويعبر الشاعر المعاصر في شعره عن يأسه من الحضارة المادية وعن نقمته عليها ، وشعوره بالاغتراب الروحي والمعنوي.
ويصف الحياة أنها أكذوبة واضحة كالشمس ، وأن الحقيقة الوحيدة هي الموت ، الراحة الأبدية .
يقول السياب في قصيدته ( غابة الموت ) :
أليس يكفي أيها الإله
أنّ الفناء غاية الحياة
فتصبغ الحياة بالقتام ؟
تُحيلني ، بلا ردى ، حطام
سفينة كسيرة تطفو على المياه ؟
هاتِ الرّدى ، أريد أن أنام
بين قبور أهلي المبعثرة
وراء ليل المقبرة
رصاصة الرحمة يا اله !
فقد بلغ اليأس بالشاعر السياب أبعد مداه حتى طلب من الإله رصاصة الرحمة . موتًا مباغتاً ينهي شقاءه وعذابه .
وتختلف الرؤى للواقع المعاش من شاعر لآخر .ويظل الصراع بين مواجهة الذات الفردية مع نفسها ، وبين مواجهتها للعالم الخارجي.
وتظل مشاعر الغربة والضياع ( الحزن العميق ) هي السمة المهيمنة على أشعارهم.