آداب و ثقافة

«الزمن والذاكرة.. بين الخلود والفناء» خاطرة لـ فاطمة امزيل

سمانيوز/خاص

كانت لحظة الهبوط الأولى، بداية انطلاق الزمن البشري الذي لم يتوان في الانسياب داخل كيان الإنسان، كمياه خفية لا تُرى ولكنها تنحت مجراها في الروح. كان آدم، وهو يرتاع في الجنة، لا يعرف للزمن طعماً ولا عدّا، ولا للحظة وزناً. فالوجود هناك، في الفردوس الأعلى، لا يقاس بالساعات، ولا يُؤرّخ بالأيام. هو وجود ممتد، سرمدي، لا يحتاج إلى ذاكرة لأن كل شيء حاضر أبدًا.

لكن بعد النزول، أصبح الزمن قيدًا. وأصبحت حتى جزيئات الثانية محسوبة، يحسب الزمن بحسب التواجد في العالم الجديد، وبحسب الحركات والسكون، وبحسب الأفعال والأعمال. ما كان الزمن. المحدد إلا لتذكر الزمن المطلق الذي يخلو من العدّ ومن القيود. صار الإنسان يتذكر لأنه صار يُنسى ما كان ينعم فيه، ويُسجّل لأنه يخاف من الضياع، ويشتاق لأنه فقد شيئًا لا زمن له.

الذاكرة هي صدى الخلود في عقلٍ أدرك الفناء. إنها الجسر الذي يحاول الإنسان عبره العودة إلى لحظةٍ لا تموت، إلى معنى لا يتآكل مع الأيام. كل استرجاع للماضي هو محاولة لترميم انكسار الزمن، وكل حنين هو توق إلى أن نكون خارج الوقت، مرة أخرى. لم يُعلم الله عز وجل آدم الأسماء إلا لتكون بديلاً عن النسيان الجبري، وملء للفراغ الذي يحدثه ذلك النسيان، لتولد طاقة مستجدة هي طاقة العلم داخل حيز ممتد يتمثل في فضاء الزمن.

ولعل أعظم ما يربطنا بتجربة آدم، هو هذا الإحساس العميق بأننا كُنّا في مكان ما، خارج الزمن، وأننا نحمل فينا نبضًا من الأبدية، حتى ونحن نعيش في لحظة محدودة، مؤقتة، منتهية.

هكذا، فإن الإنسان لا يعيش الزمن فقط، بل يُقاومه. إننا نحاول أن نؤرّخ، أن نخلّد، أن نحفظ، أن نصوّر، أن نكتب، أن نتذكّر. وكأننا نقول: “أنا كنت هنا، وأنا ما زلت أُذكر”، تمامًا كما كان آدم، في لحظة الأسماء، شاهداً على علمٍ أزليّ، ومن ثم شاهداً على السقوط إلى لحظةٍ زمنية لا بد أن تُعاش.

إن الزمن ليس خطًا مستقيمًا كما نتوهّم، بل هو دوران في قلب الذاكرة. ففي كل ذكرى قديمة، هناك رجوعٌ إلى لحظة الأصل، وفي كل خوف من الفناء، هناك تمسّك بخيطٍ من الخلود.

يا ابن آدم، أنت لست ابن اللحظة فقط، بل ابن ما قبل اللحظة. في داخلك ساعة لا تعمل بالعقارب، بل تنبض بما كان قبل أن يكون الزمن. ذاكرة آدم لم تحفظ إلا ما شاء له الله، فهو لم ينس النعيم ولا المعصية، ولا ما تعلمه من أسماء، لكنه نسي أن إبليس عدو له، وأن العالم الآخر كان عالم خلود في النعيم، وأنه كان مستوراً فظهرت سوءاته. هبوطه إلى الدنيا كان لحظة مبهمة، فارغة، بين ما كان عليه وما صار إليه. لقد أصبح الزمن ثقيلاً وحاكماً لتحقيق التحول وتقسيم الوقت إلى ليل ونهار، وأيام وأسابيع وشهور وسنوات. أصبح لابد من حساب الزمن لحساب العمر كتجربة للتغير الجسدي، وكتجربة لما يسمى “الموت”.

إلهنا علّمنا أن نرى الزمن بعين الخلود،
أن لا نُفتن بساعات الأرض فنغفل عن نور الأزل.
اجعل ذاكرتنا سبيلاً إلى الرجوع،
لا إلى الحنين فقط، بل إلى اللقاء.
ازرع في قلوبنا يقين البداية الأولى،
حين علّمت آدم الأسماء، وقلت له: “اسكن”، فعلِمَ السكينة قبل أن يعرف الوقت.

اللهم اجعلني أكتب لا لأحفظ اللحظة،
بل لأُشعل في القلب نور الأبد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى