أخبار عربيةالسلايدر الرئيسيتقارير

من الاشتباكات إلى الاغتيالات.. تعز تغرق في مستنقع الانفلات الأمني

سمانيوز/تقرير:هشام صويلح

مدينةٌ على فوهة بندقية، وأطفالٌ يُقتلون كما تُسحق الذبابات.
تعز، التي لطالما عُرفت بأنها عاصمة للثقافة، تُختزل اليوم في مشاهد الدم والبارود، بين اشتباكات عسكرية داخلية واغتيالات مروّعة، وصولًا إلى جرائم بشعة تطال حتى الأطفال، دون أن يتحرك ساكن في سلطة تتقاسمها فصائل مسلحة تدّعي تمثيل الشرعية.

ففي غضون أقل من أسبوع، تحولت المدينة إلى ساحة مفتوحة للانفلات الأمني، يُقتل فيها الإنسان علنًا، وتُنتزع أرواح الأبرياء بدمٍ بارد، وسط صمت مريب من الجهات المعنية. كيف وصل الحال بتعز إلى هذا المنحدر؟ ومن يحكم من؟ ولماذا تحولت المدينة إلى ملاذ للجريمة بدلًا من أن تكون ملجأ للعدالة؟

اشتباكات في وضح النهار… ومسلحون يتقاسمون المدينة

في السادس من مايو 2025، اندلعت اشتباكات عنيفة بمختلف أنواع الأسلحة بين مجاميع مسلحة تتبع الألوية العسكرية في قيادة محور تعز، التي تُهيمن عليها مليشيات الإخوان المحسوبة على الشرعية.

الاشتباكات، التي قادها كلٌ من خطاب الياسري وبكر صادق سرحان – الأخير محكوم بالإعدام وصادرة بحقه أوامر ضبط قهرية – جرت بعد محاولة اقتحام مصنع الشيباني في منطقة الحصب. أصوات الرصاص والقذائف أرعبت السكان، خصوصًا الطلاب في المراكز الامتحانية، في مشهد يُجسد كيف تحوّلت المدارس والمنازل إلى خطوط تماس غير معلنة.

ورغم الإصابات بين عناصر الأمن التي تدخلت لفض الاشتباكات، لم تُسجّل أي إجراءات حازمة من السلطة المحلية، ما عزّز الاعتقاد بأن هذه المليشيات باتت تحكم المدينة فعليًا، وأن أدوات الدولة مجرد واجهة بلا صلاحيات.

جريمة غدر تُنهي حياة رياضي شاب

في صباح أمس الجمعة 9 مايو، استيقظت المدينة على خبر مفجع آخر، بعد أن أقدم شاب يُدعى هشام دماج العديني على قتل صديقه عبدالحفيظ أنور، لاعب نادي الصقر الرياضي لكرة اليد. الجريمة وقعت غدرًا، ثم فرّ الجاني للاختباء عند أحد قيادات مليشيات الإخوان، ما يعكس كيف تحولت تلك الجماعات من أدوات عسكرية إلى مظلات حامية للمجرمين.

المفارقة المؤلمة أن عبدالحفيظ لم يكن يمر بظروف عادية، بل كان يعيش فرحة استقبال مولوده الجديد قبل أيام فقط من مقتله، ما أضفى على الجريمة بعدًا إنسانيًا مُفجعًا. وقد أثارت الحادثة سخطًا واسعًا، لكنها قوبلت بنفس اللامبالاة الرسمية التي اعتادت عليها المدينة في جرائم مماثلة.

إعدام ميداني لطفل… على مرأى من الجميع

وفي مساء اليوم نفسه، وقعت جريمة أكثر بشاعة. ففي حي بير باشا وسط المدينة، قُتل الطفل مرسال عبدالله عيدروس الزبيري بدمٍ بارد، بعد خلاف بسيط مع طفل آخر على لعبة بلياردو.

تطور الخلاف إلى شجار طفولي، فاستنجد الطفل بوالده، المدعو كامل زيد الشرعبي، الذي حضر إلى المكان برفقة مجموعة مسلحين، واعتدى على مرسال بالضرب، ثم أطلق عليه النار عمدًا مستهدفًا قلبه، رغم توسلاته الذي صرخبها: “لا تقتلناش”.
الجريمة وقعت علنًا، أمام أعين الناس، في مدينة لا يُحكمها قانون ولا تردعها دولة.

وتفيد المصادر أن الجاني معروف بعلاقاته مع عناصر نافذة في الجماعات المسلحة، وهو ما يجعل محاسبته احتمالًا بعيدًا في ظل اختلال ميزان القوة بين القاتل والعدالة.

عاصمة للثقافة.. تتحول إلى مستنقع دموي

بات من الصعب تصديق أن هذه الجرائم حدثت في مدينة واحدة، في أقل من أسبوع. لكن هذا الواقع، كما يراه سكان تعز، لم يعد استثناءً بل أصبح قاعدة، في ظل تقاسم النفوذ بين الفصائل المسلحة، وتراجع دور الدولة أمام سطوة المليشيات الإخوانية.

تعز اليوم تُعد نموذجًا لانهيار الدولة في مناطق سيطرة الشرعية. فالجناة يحمون بعضهم بعضًا، ويتوارون خلف السلاح والسلطة الفعلية، بينما تُترك الضحايا لذويهم بلا إنصاف، ولا حتى مواساة رسمية.

عشر سنوات من الفوضى… والأفق مغلق

منذ انقلاب جماعة الحوثيين في 2015، شهدت تعز انفلاتًا أمنيًا متصاعدًا، مع تصاعد نفوذ الألوية المحسوبة على حزب الإصلاح ذراع الإخوان في اليمن، وتورّطها في صراعات بينية وصدامات على الموارد والسيطرة، أكثر من مواجهتها للحوثيين.
وفي السنوات الخمس الأخيرة، تكررت أنماط القتل العلني والاغتيالات وتفجير الخلافات الشخصية برصاص الجماعات المسلحة، دون محاكمات أو حتى بيانات رسمية تدين.

محاولات إصلاح الأجهزة الأمنية والقضائية باءت بالفشل بسبب تبعية تلك الأجهزة ذاتها للفصائل، بينما لم تنجح الحكومة في فرض أي نموذج للسيادة، ما أفسح المجال لنشوء “نظام موازي” تفرضه القوة لا القانون.

جرائم بلا عقاب.. وأجيال تنشأ على الدم

لا يقتصر الخطر في تعز على سقوط الضحايا، بل يمتد إلى بناء واقع مشوّه لدى الأجيال الناشئة، التي ترى في الجريمة وسيلة لحل النزاعات، وفي السلاح أداة لحسم الخلافات.
والأسوأ، أن ثقافة الخوف من التبليغ، أو اليأس من جدوى الشكوى، باتت سائدة، ما يعمّق الأزمة ويجعل من الإصلاح أمرًا معقدًا، ما لم يكن جذريًا.

خاتمة: من يُنقذ تعز؟

في ظل هذا المشهد الكارثي، لم تعد تعز بحاجة إلى خطابات رنانة أو بيانات تنديد، بل إلى إعادة بناء شاملة لمنظومة الأمن والقضاء، بعيدًا عن الفصائلية والمصالح الضيقة.
فكل يوم يمر بلا محاسبة، يعني يومًا إضافيًا في دورة الدم.

ويبقى السؤال:
هل ما يحدث في تعز حالة طارئة… أم نموذج مُستدام لمدينة أُريد لها أن تغرق في مستنقع لا قاع له؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى