عام
أبعاد القاموس التاريخي
كل القواميس، في جميع اللغات، يستنسخ بعضها بعضاً، إن لم نقل تتسارق، يسرق بعضها بعضاً. تأمل معاجمنا القديمة والحديثة، تَرَ أنها تردد مع أبي العلاء: «ما أرانا نقول إلا قديماً.. ومُعاداً من قولنا مكروراً». إلا القاموس التاريخي فإنه جهد بحوث منهجية، وكدح دراسات أكاديمية، وليس تجميع مواد جاهزة. مجال لا اجتهاد فيه بغير منهج عملي بمعطيات منطقية، تنبني عليها براهين علمية. ميادين التأثيل والتأصيل هي اللغات السامية التي غالباً ما نختصرها في العربية، الآرامية، العبرية، الحبشية، بينما هذه تنتمي إلى عائلة تضم العشرات من اللغات الأفروآسيوية، ما ظل منها وما اندثر، إضافة إلى لغات الجوار الكبير كاللغات الهندو-أوروبية. لقد كان العرب ولا يزالون مغيبين عن روائع هذه المناجم في المعاجم، فدمع الفكر ساجم، والعقل واجم.
ههنا ندخل مباحث الاجتماع والسياسة، بالغوص في تعدد مظاهر الهوية الواحدة، وتشابكها في الجذور. الصور شتى ولكنها مشتركة في أول النشوء والتكوين. الفوتونات واحدة، سوى أن مظاهرها في قوس قزح مختلفة متباينة. القاموس التاريخي بمادته العلمية المعرفية، يستطيع أن يحل الكثير من الألغاز والمبهمات التاريخية والإثنية والأنثروبولوجية، فتغدو النتائج الباهرة مدعاة تناغم وتوفيق وتوافق، فلا يقول الناس بغير علم: «فإذا أنكر خل خله.. وتلاقينا لقاء الغرباء.. ومضى كلٌّ إلى غايته»، هنا، يجب التعديل: «لا تقل شئنا فإن الجهل شاء». عندئذ لا إنكار ولا لقاء غرباء، وتصبح الغاية مشتركة.
القاموس التاريخي سيفتح دروباً للعمل المعجمي العربي لم يسلكها من قبل، وسيحتاج إلى عقول شمولية التفكير، مثل معالجات البيانات التي تعمل بنظام المتوازيات. سوف يعيد النظر في الواقع المشتت المفتت، ويبرهن على أن العناصر الكيميائية التي تبدو متباعدة، إنما صنعت من أصل واحد. وسيدرك الفرقاء، الذين أريد لهم أن يكونوا في افتراق وافتراء، أن لغاتهم ليست سوى لهجات تناءت وتفارقت بفعل حوادث التاريخ والجغرافيا، بينما هي أغصان لشجرة واحدة، مثمرة، أجريت لأغصانها عشرات عمليات التلقيح، فصارت ثمارها تخفي أصولها عن الأنظار.
لزوم ما يلزم: النتيجة اللغوية: القاموس في الآرامية البحر المحيط، فنعم الإقلاع والسباحة والغوص واستخراج اللؤلؤ والمرجان.
* نقلا عن “الخليج”