النموذج الجنوبي الممنوع..!

كتب:شهاب الحامد
كان لي تفسير خاص لفكرة تعطيل الخدمات في عدن منذ تحريرها في 2015م ، وكنت اظن انها فكرة ذكية نابعة من شعور وطني وحس امني ووعي سياسي مدروس ومخطط له ، وان ازمة الخدمات ستنتهي بعد ان تتحقق الغاية منها وبالطبع كنت معجب بتفكير المكلفين بادارة الازمة في عدن حينها رغم قساوتها وهكذا تقبلنا تعطيل الخدمات الممنهج بصبر وشعور وطني لايوصف، حتى اننا تكيفنا مع حالة الانفلات وانتشار الجماعات المسلحة على اختلاف مسمياتها وتوجهاتها وانتماءاتها ومع تقسيم المدينة الى مربعات امنية مغلقة تتبع زعماء تلك المجموعات.
اما تفسيري لتعطيل الخدمات والكهرباء بشكل خاص ، هو ان المكلفين بادارة الازمة آنذاك (تحالف – شرعية – ومقاومة جنوبية) يرون ان مهمة استعادة الامن والاستقرار وتطبيع الحياة في عدن يتطلب وقف النزوح الداخلي اليها بعد التحرير سوى من المحافظات المحيطة او من محافظات الشمال، ولان عدن تضاعف عدد سكانها بعد الوحدة الى حد يفوق احتمالها الامر الذي اضر ببنيتها التحتية المتهالكة، وفي وضع طارئ محفوف بالمخاطر والتحديات على الصعيد الامني والمعيشي والخدمي والتدخلات الخارجية والتهديدات الداخلية كالذي عشناه بعد تحرير عدن كان لابد من اتخاذ تدابير صارمة وقاسية ومنها تعطيل الخدمات الاساسية لتبدو عدن مدينة طاردة للطارئين والغير مرغوب فيهم وبالتالي غير جاهزة ولا مؤهلة لاستقبال نازحين جدد ، وكنت لا اتحدث بهذا التفسير او التحليل الا في محيطنا الصغير خشية ان نفسد الخطة على اصحاب فكرة تعطيل الخدمات.
لكن بمرور الوقت عندما ساءت الخدمات اكثر وزادت المعاناة وقل الصبر وارتفعت الاصوات المنددة بسياسة العقاب الجماعي وعندما لم يتغير شيء مما اعتقدته واملته من فكرة التعطيل حيث ان موجات النزوح الممنهج مازالت مستمرة حتى اليوم دون توقف بينما قطاع الخدمات يتهاوى نتيجة لزيادة الضغط السكاني من جهة وزيادة فائض نذالة المعنيين بملف الخدمات في عدن من جهة اخرى.
منذ اكثر من عام بدأنا نسمع نغمة جديدة من بعض منابر الاعلام وعلى صفحات التواصل تعزف موال النموذج المثالي لانظمة الحكم ومن يستطع خلق نموذج ويحسن من ادائه وسياسته واسلوب ادارته او قيادته فقد ينال الحضوة بالاشادة والتكريم من المعنيين برسم السياسات في العالم والشرق الاوسط الجديد بشكل خاص، وخذ سوريا على سبيل المثال لا الحصر وكيف ان من ادار الازمة فيها على مدى 14 عام، اهتدى في النهاية الى نموذج قدمه احمد الشرع في ادلب، حيث قدمت هيئة تحرير الشام التي اسسها عام 2017 بعد ان اعلن تخليه عن تنظيم القاعدة وقدمت نفسها كمجموعة معتدلة قادرة على ادارة مناطاق سيطرتها ادارة مدنية وتقديم الخدمات الاساسية وتحصيل الضرائب واصدار بطائق هوية خاصة.
اكتفى الامريكيون بنموذج الشرع في إدلب وتناسى كل تاريخه الاجرامي في جبهة النصرة وتنظيم القاعدة وقتاله الامريكيين في العراق ، وتم دعمه للوصول الى دمشق وحشدوا له التأييد الدولي والعربي لتمكينه رئيسا للجمهورية العربية السورية وكان لقائه بالرئيس الامريكي ترامب في الرياض قبل يومين بمثابة التعميد البابوي للشرع كانموذج مثالي للاقتداء .
ويسعى ترامب الى اقناع العالم بنموذج الحوثي في صنعاء وكيف انه يواجه دول كبرى بشجاعة وثبات وانه استطاع ادارة شؤونه في ظل حصار خانق مفروض عليه، وكان هذا كافيا لاقناع ادارة ترامب بالجلوس معه في عمان وبحث سبل التهدئة في البحر الاحمر رغم التصنيف الامريكي لمليشات الحوثي جماعة ارهابية اجنبية .
وامام اصداء نغمة النموذج المتعالية ظهر لنا بالامس اناس في حضرموت يتغنون بما اسموه الحكم الذاتي لحضرموت، وهم بهذا يحاكون جماعات متطلعة للحكم قدمت او تحاول تقديم نموذج علها تجد آذان ترامبية صاغية تلتقط اصدائه اسوة بمتطرفي سوريا او ارهابيي صنعاء، في حين يجتهد اليمنيون الذين يشاركوننا مناصفة في الجنوب ومعهم بعض الجنوبيين المتبلدين والمتوقفين في محطات الزمن التليدة، بان دعاة الانفصال في الجنوب عجزوا عن تقديم نموذج مثالي في مناطق سيطرتهم خلال عشر سنوات .
بينما يجد البعض (وانا منهم ) بروزا ملفتنا للجماعات السلفية الموالية للمجلس الانتقالي وبانهم الاكثر انضباطا وتنظيما والاقل فسادا وتجاوزا للانظمة والقوانين النافذة، اي بمعنى ان السلفيين في الانتقالي قيادة وافراد يشكلون نموذجا يمكن الاعتماد عليه، ولهذا يذهب البعض الى القول بان المستقبل للسلفيين في الجنوب، في موازاة راديكالية الحوثي في الشمال، وربما هي حالة استنساخ للنموذج السوري.
الخلاصة: لم يكن تعطيل الخدمات في الجنوب فكرة عبقرية كما كنت اظن، بل كانت حرب ممنهجة لكسر ارادة الجنوبيين واثبات انهم اعجز من ان يديرون شؤونهم بمعزل عن الشمالين وبالتالي منعهم من تقديم النموذج المثالي الذي يتغنون به .