الجنوب العربيتقارير

تزرع الموت وتحصد الأرواح في الضالع… «مبيدات القات السامة» حولت القرى إلى بؤر سرطانية قاتلة..!

سمانيوز / تقرير: سامية المنصوري

في الوقت الذي يعتمد فيه معظم سكان قرى الضالع على زراعة القات كمصدر رزق أساسي، بدأت تظهر في الأفق كارثة صحية صامتة تهدد حاضرهم ومستقبلهم. فقد تحوّلت هذه النبتة الخضراء التي طالما ارتبطت بالعادات اليومية، إلى ناقل خفي لأمراض خطيرة، على رأسها السرطان. والسبب: الاستخدام العشوائي لمبيدات زراعية سامة، بعضها محظور دوليًا، تُرش بشكل مكثف على القات دون أي رقابة.

وبينما تنتشر حالات الإصابة بالسرطان في القرى الريفية بوتيرة متصاعدة، يتزايد الخوف في أوساط الأهالي الذين يفتقرون لأبسط خدمات التشخيص والعلاج. هذا التقرير يسلط الضوء على واقع انتشار المرض في قرى الضالع، ويربط بين الممارسات الزراعية الخطرة وبين ازدياد أعداد الضحايا، ويطرح توصيات عاجلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

فقد شهدت الضالع في السنوات الأخيرة، وخصوصًا قراها الريفية، تزايدًا مقلقًا في معدلات الإصابة بمرض السرطان، وهو ما أثار مخاوف الأهالي والجهات الصحية على حد سواء. هذا الانتشار الملفت للأنظار لا يبدو أنه جاء مصادفة، بل ارتبط بشكل مباشر بانتشار ظاهرة استخدام مبيدات زراعية كيماوية خطيرة تُرش على نبتة القات، التي تُزرع على نطاق واسع في المنطقة، وتُعد مصدر دخل رئيسي للعديد من الأسر.

تُطرح هنا أسئلة جوهرية: ما الذي يحدث فعلًا في القرى؟ ولماذا بات السرطان يظهر في عائلات لم تعرف المرض من قبل؟ وهل القات الذي كان بالأمس نبتة “مزاج” أصبح اليوم أحد أخطر الأسباب وراء هذه المأساة الصحية؟

واقع انتشار المرض في قرى الضالع:

تم رصد ارتفاع واضح في حالات السرطان في قرى مثل دمت، جُبن، قُعطبة، والحشا، خوبر قبه، قران الحصين، الكمه العقله، مريس، خله شكع، مدسم، وغيرها.

وتنوّعت الحالات ما بين سرطان الثدي، والرئة، والكبد، والمعدة، إضافة إلى حالات سرطان الدم (اللوكيميا) لدى الأطفال.

تشير مصادر محلية إلى أن أغلب المرضى لم تظهر عليهم الأعراض إلا في مراحل متقدمة من المرض، وهو ما يُعقّد فرص العلاج والشفاء.

ويعود هذا التأخر غالبًا إلى ضعف الإمكانات الطبية في القرى، وعدم وجود ثقافة صحية تشجع على الفحص الدوري والكشف المبكر.

يرى أطباء محليون وناشطون أن السبب الرئيسي يعود إلى الاستخدام المفرط وغير المنضبط للمبيدات الزراعية السامة، التي تُستخدم في رش القات، ومن هذه الأسباب نذكر:

1. المبيدات المسرطنة: تُستخدم مركّبات شديدة السمية، بعضها محظور عالميًا، لرش القات بهدف تسريع نموه أو حماية الأوراق من الحشرات. وتدخل هذه المواد إلى جسم الإنسان عبر الاستنشاق، أو التلامس، أو من خلال شرب المياه الملوثة.

2. غياب الإشراف الزراعي: لا توجد جهة رقابية تشرف على نوعية المبيدات المستخدمة، ولا يتم تدريب المزارعين على الاستخدام الآمن، ما يجعل التعرض لها أمرًا يوميًا وعشوائيًا.

3. تلوث البيئة المحلية: تسرب المبيدات إلى التربة والآبار المائية المنتشرة في القرى يؤدي إلى تلوث مصادر الشرب، ويزيد من مخاطر الإصابة بالسرطان وغيره من الأمراض المزمنة.

4. ضعف الوعي الصحي: كثير من السكان لا يدركون مخاطر القات أو المبيدات المرتبطة به، بل يعتقدون أن ما يصيبهم هو “قدر”، ولا يعون العلاقة المباشرة بين الممارسات الزراعية والأمراض المنتشرة.

5. غياب حملات التوعية والفحص: لا توجد برامج حكومية أو أهلية كافية تنبه الناس لخطورة ما يجري، كما لا توجد فرق طبية ميدانية للفحص أو حتى الرصد المستمر.

التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية:

السرطان لا يُصيب الأجساد فحسب، بل يترك أثرًا عميقًا على البنية الاجتماعية والاقتصادية في القرى، تتمثل في:

* عبء اقتصادي ثقيل: كلفة العلاج مرتفعة للغاية، ومعظم الأسر لا تملك القدرة على دفع تكاليف السفر إلى صنعاء أو عدن، فضلًا عن أسعار الأدوية والتحاليل.

* نزوح إلى المدن: بعض العائلات اضطرت للنزوح إلى المدن بحثًا عن علاج، مما خلق أعباء نفسية ومالية إضافية، كما أدى إلى تفكيك الروابط الاجتماعية.

* انقطاع التعليم والعمل: كثير من الأطفال يضطرون لترك المدارس لمساعدة أسرهم، أو لمرافقة ذويهم المرضى، وهو ما يُهدد المستقبل التعليمي لأبناء القرى.

* تزايد القلق المجتمعي: حالة من الهلع بدأت تنتشر بين الأهالي، خاصة عندما يُصاب أفراد شباب أو نساء غير مدخنات أو غير معرضات للعوامل التقليدية.

صحيفة “سمانيوز” قامت بجمع عدد من الآراء والتصريحات الميدانية والطبية الهامة، إلى جانب شهادات الأهالي والمزارعين عن تلك الحالات..

حيث أكّد عدد من الأطباء المحليين المختصين في الأورام، خطورة المبيدات الزراعية المستخدمة في زراعة القات، وارتباطها المباشر بزيادة عدد المصابين بالسرطان في الضالع.

تحدث إلينا في البدء الدكتور محمد عبدالكريم، أخصائي أورام، قائلًا: “لاحظنا في السنوات الأخيرة تزايد حالات السرطان القادمة من قرى محافظة الضالع، ولاحظنا نمطًا مشتركًا بين المرضى، حيث إن أغلبهم من مزارعي القات أو ممن يعيشون بالقرب من مزارع يتم فيها استخدام مبيدات كيماوية شديدة السمية. بعض هذه المبيدات تحتوي على مواد مصنفة دوليًا كمسرطنات من الدرجة الأولى. التعرض المستمر لهذه المواد، سواء عبر الاستنشاق أو الملامسة أو شرب المياه الملوثة بها، يُعد سببًا رئيسيًا في تحفيز الخلايا السرطانية بالجسم”.

وأضاف: “ما يُقلق أكثر هو أن بعض المرضى من فئات عمرية صغيرة، وأحيانًا لم يتجاوزوا الثلاثين عامًا، وهو ما يشير إلى تعرض مبكر ومكثف لعوامل بيئية خطيرة”.

هذا التصريح يُسلّط الضوء على البعد الطبي والمخاطر التي طالما تجاهلها البعض، ويؤكد ضرورة إطلاق حملات رقابة وتوعية عاجلة لحماية سكان الريف في الضالع من كارثة صحية متفاقمة.

كما شاركنا بالحديث أحد المزارعين من قرية “نُقيل الضالع” بالقول: “نشتري مبيد القات من السوق بدون أي تحذير، والناس كلها ترش بنفس الطريقة، لكن ما كنا نعرف أن هذا السم ممكن يقتل أولادنا بعد سنين”.

وعن حالات إصابة مؤكدة بالسرطان، تحدثت الاخت (…) أم لطفلين من قرية “الحشا” قائلة: “زوجي مات بسرطان الكبد، والدكاترة قالوا لنا إن السبب ممكن يكون شيء في البيئة أو الأكل. وهو طول عمره يشتغل في مزرعة قات”.

مصدر الرزق:

ومن جانبه، أحد الرعويين ويدعى “رسمي” في قرية مرفد بمديرية الحصين، قال حول زراعة القات: “نحن نزرع القات في هذه المنطقة منذ سنوات، وهو المحصول الرئيسي الذي نعتمد عليه في معيشتنا. زراعته وفرت لنا دخلاً ثابتًا، خاصة مع قلة الفرص الأخرى في الزراعة. نعرف أن له أضرار، لكن بالنسبة لنا هو مصدر رزق مثل أي محصول آخر. لو توفرت لنا بدائل مجدية، ربما فكرنا في التغيير، لكن في الظروف الحالية لا خيار أمامنا غير القات”.

أرواح الناس ليست رخيصة:

كما شاركتنا الحديث إحدى النساء من سكان قرية مرفد بمديرية الحصين “أروى صالح” قائلة: “انتشر مرض السرطان بقريتنا وبكثير من القرى بشكل مخيف، حيث أن هناك اثنين من بين خمسة مصابين بالسرطان، وينتهي بهم الحال بالموت دون فائدة من العلاجات والخسارة المالية الناتجة عن العلاج”.

وأضافت أروى: “جارنا المقرب (قاسم) توفي إثر مرض السرطان بالأمعاء والعمود الفقري، ورغم ذهابه إلى الكثير من دكاترة الأورام السرطانية، ولكن لم يحالفة الحظ ليعيش حياة أطول، وقد توفي قبل نصف عام. وهناك أيضاً جارنا الآخر (ناصر) توفي بشكل مفاجئ بسرطان الكبد قبل أسبوعين، وقد أثر ذلك على أسرته وعلينا جميعاً. لا أريد أن أخيفكم ولكن مازال هناك مدرس بكلية الضالع وهو من سكان قريتنا الأستاذ محمد، يعاني من سرطان في الرأس منذ شهر، وحالياً هو في مصر للعلاج، وأتمنى أن يعود ويبشرنا بانتصاره على المرض الخبيث. وأيضاً لحقه بالسفر الأخ محمد الفرير ذهب إلى مصر منذ عشر أيام ليتعالج هو الآخر من السرطان في المعدة، وهناك صديقات لأسرتي أم وابنتها تعانين من السرطان، إحداهما برأسها والأخرى بيدها، وأتمنى لهما الشفاء العاجل”.

وأكدت بالأخير: “أصبحنا في القرية نعاني من الرهبة والخوف الشديد من هذا المرض الخبيث، أتمنى أن لا يصيب أسرتي وطفلتي، وجميع أهالي القرى”.. متمنية أن تهتم الجهات المختصة بتوفير التوعية لتجنب المبيدات السامة لغرسة القات، وتوفير المستلزمات الطبية الكاملة، “فأرواح الناس ليست رخيصة”.

إلى ذلك، تحدث الدكتور نايف الطبقي، طيب بمستشفى النور بسناح الضالع، عن سوء استخدام المبيدات الزراعية، بما فيها تلك المستخدمة في زراعة القات، قائلاً: “دراسات عديدة ربطت التعرض للمبيدات الحشرية بزيادة خطر الإصابة بأنواع مختلفة من السرطان، مثل سرطان الدم، وسرطان الغدد الليمفاوية، وسرطان الكلى، والثدي، والبروستاتا، والرئة، وغيرها”.

وأضاف: “منظمة الصحة العالمية والوكالة الدولية لأبحاث السرطان صنفتا عدة مبيدات حشرية مثل “ليندين” و”دي دي تي” ومبيد الأعشاب “2-4-دي” كمسببة أو محتملة التسبب في السرطان لدى الإنسان”.

وتابع د. الطبقي قائلاً: “الدراسات البحثية في اليمن أشارت إلى أن المبيدات المستخدمة في حماية شجرة القات، تسبب بظهور أورام سرطانية في عدة أعضاء، مثل الغدد الدرقية، الأوعية الليمفاوية، الرئة، الكبد، والفم، حيث يرتبط تعاطي القات المرشوش بمبيدات حشرية بآلاف حالات السرطان سنويًا، بسبب تراكم هذه المبيدات في الجسم وعدم الالتزام بفترات الأمان بعد الرش”، مؤكداً أن “التعرض المستمر للمبيدات في المناطق الزراعية قد يرفع خطر الإصابة بالسرطان، حتى لدى السكان غير العاملين في الزراعة، ويُشبه تأثيره بخطورة التدخين في بعض أنواع السرطان مثل سرطان الغدد الليمفاوية وسرطان الدم”.

وختم الدكتور نايف الطبقي حديثه بالتأكيد على ارتباط المبيدات الزراعية المستخدمة في زراعة القات وغيرها من المحاصيل، بزيادة خطر الإصابة بالسرطان. ويعود ذلك إلى تأثير المواد الكيميائية السامة التي تحتويها هذه المبيدات على الجسم البشري.

توصيات وقائية وعلاجية عاجلة:

هناك العديد من التوصيات والتدابير التي يجب اتخاذها والعمل بها للحد من تفشي السرطانات والوقوع في شركها، منها:
سن قوانين وضوابط صارمة لمنع استخدام المبيدات المحظورة، وفرض رقابة على الأسواق المحلية.

تدريب المزارعين على طرق الزراعة الآمنة والبدائل الطبيعية للمبيدات.

نشر حملات توعية دورية في القرى، تشمل المدارس والمساجد، لتثقيف السكان حول مخاطر المبيدات والسرطان.

توفير وحدات طبية متنقلة تقوم بالكشف المبكر، وإجراء فحوصات مجانية للسكان.

تشجيع العمل الأهلي والمجتمعي على دعم المرضى وتبني حملات صحية.

إدخال دروس التثقيف الصحي في المناهج المدرسية لتوعية الأجيال القادمة.

قضية السرطان في قرى الضالع لم تعد مجرد أرقام أو حالات معزولة، بل باتت تمثل أزمة صحية حقيقية تهدد حاضر ومستقبل المنطقة. وإذا لم يتم التحرك الجاد من قبل الجهات الرسمية، والمنظمات الصحية، والمجتمع المدني، فإن الأوضاع مرشحة للمزيد من التدهور.

ختاماً..
نبتة القات التي تُزرع لتكون موردًا اقتصاديًا تحوّلت إلى سبب خفي وراء مأساة إنسانية، ويجب أن يتحد الجميع لإنقاذ ما تبقى من الأرواح، والبيئة، والأمل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى